Atwasat

العلمانية غير قابلة للاستنساخ (4-4)

فلاني عبدالرحمن الزوي الأربعاء 03 أبريل 2019, 06:40 مساء
فلاني عبدالرحمن الزوي

لقد تناولت في المقال السابق مصطلح «Secularism»، أي العَلمانية، هكذا وكما تم تعريبها في القواميس العربية كمصطلح جديد، وقمتُ بنقل أقوال مَن طالبوا بها ورفعوا شعاراتها في مجتمعاتهم الغربية المسيحية، وكذلك الأسباب والمبررات التي طرحوها لذلك المطلب كمحصلة ناتجة عن تراكمات واقع مرير عاشه وعانى منه المواطن الأوروبي المقهور باسم تعاليم الكنيسة في تلك الحقبة التاريخية، تلك الصورة قمت بالغور في أعماقها وتشريحها والنظر إليها من داخل واقع وبيئة ومناخ وتضاريس الوسط الذي عاشه ذلك المواطن الغربي في ظل الكنيسة، وليس من واقعنا نحن كمجتمع يدين بالإسلام وليس له كنائس ولا يجب أن تكون في ملاكه وظيفة اسمها رجل الدين، والذي لا يعنيه، أي المجتمع المسلم، هذا الأمر ولا يحاكيه ذلك الواقع المرير كما هو الحال عندهم

لقد قرأت وبحثت في مكونات العلاقة الظالمة بين الجلاد والضحية داخل النسيج الاجتماعي في أوروبا الذي عاشه المواطن منذ منتصف القرن الأول الميلادي وحتى القرن السابع عشر، حيث ألبسته الكنيسة الثوب المقدس من خامتها وكما فصلته وحاكته بيدها وبتعاليمها المنسوبة زورًا للمسيح، ابتداءً من تكفير العلماء وسجنهم وقتلهم ومحاربة العلم وامتصاص عرق العمال تحت نظام الإقطاع وجباية الضرائب العشرية والإتاوات التي فرضتها الكنيسة عليهم، كل هذه الأقوال والأعمال الظالمة كانت تنسب لله وعلى أنها من تعاليم المسيح وهو الذي جاء بها.الكلمة أي «الدنيوية أو العَلمانية إن شئت» في حد ذاتها لا أساس لها أصلًا وليس لها جذر في معجم كلام العرب الذين نزل القرآن بلسانهم على محمد صلى الله عليه وسلم رسالةً وتشريعًا ومعجزة نبوة وقصصًا لأمم ورسل سابقة، وهي أيضًا، أي العلمانية، تعتبر دخيلة من حيث المعنى الحرفي للكلمة ومن حيث المضمون على المجتمع الإنساني برمته منذ بداية عهد الرسالات، من هنا كانت تلك الكلمة التي ترجمت إلى العلمانية صعبة الصياغة والتأطير في قالب بل من المستحيل تناغمها وتوافقها مع مناخ وتضاريس وتعاليم المجتمع الذي يدين بدين الإسلام عامة وعلى وجه أخص وأدق المجتمع العربي المسلم الذي يعنينا هنا بالدرجة الأولى الحديث عنه في هذا الصدد. إذا نظرنا إلى معنى ومقصود الكلمة في مهدها والبيئة التي ظهرت فيها وتعالت أصوات المطالبين بها، وتعني بالإنجليزية «Secularism». بنية فصل الحياة الدنيوية ومتطلباتها عن شأن الدين الأخروي الغيبي عندهم، لوجدنا أن المطالبين بها وبضرورة تطبيقها في مجتمعهم آنذاك كانت مطلبًا عادلًا وضروريًّا وأقرب إلى الحق والعدل والإنصاف مما تمت ممارسته وارتكابه من جرائم باسم الدين وعلى يد رجال الكنيسة ورهبانها ضد الإنسان المسيحي. إن صرخة الطلاق الذي لا رجعة فيه، ونداء كسر حاجز الصمت في وجه الكنيسة وتسفيه تعاليمها كانت واجبة كحركة تحرر ووقوف في وجه الزور والظلم لا مناص منها، وواجب إقامة العدل الذي هو من أسماء الله الحسنى ورفض القهر والظلم كان أمرًا لا مفر منه، إن تلك الشعلة التي أوقدها القس الألماني مارتن لوثر، الذي فتح فيها الباب أمام مذهب جديد متمرد على طغيان وصلف وفجور الكنيسة، ورفع فيه سقف الحريات عاليًا ليتناسب مع قامات الذين ظلوا راكعين أمام رجال الدين ردحًا من الزمن وعلى مدى ستة عشر قرنًا، وقام بإطلاق صافرة البداية لحركة البروتستانت أو المتمردين على الكنيسة الأرثوذكسية لتخليص الناس من الدجل والخرافة واحتكار تعاليم المسيح المزورة أصلًا، ووقف مجاهرًا بأعلى صوت في وجه أضحوكة صكوك الغفران ودحضها والسخرية منها، ونادى بالفصل الكامل بين شؤون الدولة الدنيوية عن الأمور الغيبية أو الروحانية لتعاليم المسيح التصحيحية والإصلاحية، آخذين في الاعتبار أن الكنيسة أخذت تحيد منذ وقت مبكر عن تعاليم المسيح التي جاء بها أصلًا  لتصحيح مسار رسالة موسى عليه السلام والتي حرفها اليهود.

إن الحرب والتآمر على المسيح وتعاليمه وأنصاره من الحواريين لم تتوقف منذ الوهلة الأولى عندما تحالف اليهود والرومان معًا ضد دعوته الإصلاحية وحاربوه واضطهدوه وزعموا صلبه، تزامن ذلك الانحراف مع ضعف الامبراطورية الرومانية وانهيارها على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتهاوت أركان وهيبة الامبراطورية ليجد رجال الكنيسة فرصتهم وضالتهم في التغلغل والاستحواذ وإحكام الخناق على رقاب الناس باسم الدين، هذا التصدع والانهيار، الذي أدى إلى سقوط آخر امبراطورية رومانية في نهاية القرن الرابع الميلادي ترك الساحة رحبة أمام تطاول رجال الكنيسة، فأوغلوا في ادعاء معرفة الغيبيات وغفران الذنوب والتعميد ومسح الخطايا وبيع صكوك الغفران، واعتبر رجال الكنيسة أن كل الموروث العلمي والفكري والفلسفي والتاريخي للامبراطورية هو كفر وخروج على تعاليم الدين وشيء محرم ومخالف لرسالة المسيح، بهذا الانحراف عن تعاليم المسيح الأساسية والإصلاحية أصبحت الكنيسة ورجال الدين المسيحيون أعداء لله وللمسيح ولرسالته وكذلك أداة بطش وظلم ودجل وخرافة، وادعت كذبًا بأن كل ما تمليه وتشرعه للناس هو من صلب تعاليم عيسى على يد حواريه وعلى رأسهم بطرس، فقد نصّب رجال الدين أنفسهم ممثلين للرب من خلال قوانين الكنيسة الجائرة.

هذه الصبغة التي صبغت الكنيسة بها نفسها زادت من هيمنتها وتوسع نفوذها وتمددت بشكل أكبر وأوسع نطاقًا ونفوذًا بعد القرن الخامس الميلادي، أي بعد سقوط روما، واستمر هذا التدني والسقوط على مدى العشرة قرون التالية لسقوط الامبراطورية الرومانية، فمنذ ذلك التاريخ امتدت أذرع الكنيسة وانتصرت في حروبها ضد الملوك إلى أن آلت الأمور في نهاية ذلك الصراع لإنشاء تحالف مخجل مصلحي بينهما، وأصبحت الكنيسة صاحبة الأمر والنهي في ولاية الملوك وتتويجهم وعزلهم إذا أرادت ذلك، وسطت على امتلاك حجم أوسع من الأراضي الزراعية ومحاصيلها واتساع دائرة الجباية والإتاوات على العامة واتساع العقارات وممتلكات الوقف التابعة للكنيسة.

رغم كل هذه الانحرافات وهذا الخروج على تعاليم المسيح، فإن الكنيسة لم تستحِ وظلت تحتفظ خلف أبوابها وبين جدرانها بما أطلقت عليه «الدين السماوي»، إلى أن سقطت بالضربة القاضية وانتهى دورها وأصبح الملوك لا يملكون حق فرض التدين على شعوبهم كما كانوا من قبل، ومنذ ذلك التاريخ أخذت العلمانية طريقها في الصعود بينما غربت شمس الكنيسة ورهبانها ووُريت خرافاتها ودورها وتعاليم رهبانها الثرى إلى الأبد، ومن ذلك اليوم دخلت أوروبا عصر النهضة والتقدم والعلوم والصناعة وانطلقت الاكتشافات والأبحاث العلمية دون توقف، هذه النهضة ليست بسبب أن الدين أصبح لا علاقة له بالدولة، ولكن لأن خرافة الكنيسة ودجلها تمت تنحيتها عن طريق بناء ونهضة المجتمع وتقدمه، هذه النقطة مفصلية ومهمة جدًّا ولا يجب مقارنتها وتطبيقها على دين الإسلام لأنه دين لم يختلف مع العلم والعلماء ولم يسفههم أو يقضي بقتلهم في يوم من الأيام.

من خلال هذا العرض يتضح جليًّا أن الذي طالب الأوروبيون بفصله عن حياتهم ليس دينًّا سماويًّا منزلًا على نبي أو أن المجتمع يريد فصل ذلك الدين السماوي عن الحياة الدنيوية، بل هو انحراف عقائدي وأخلاقي واجتماعي صارخ تم تغليفه وتسويقه تحت شعار الدين، وهذا المعلب المزيف ترفضه كل الشرائع السماوية وفي مقدمتها الإسلام.

فهل الإسلام يقتل أو يحلل قتل عالم فلك أو يسجنه لمجرد اختراعه منظارًا لرؤية الكواكب ودراسة مداراتها ومجراتها؟!. ألم يخبرنا القرآن منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أي منذ مطلع القرن السادس الميلادي، حيث جاء في القرآن «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)». سورة يس.

وإن كل هذه الكواكب والنجوم كل منها يسبح في فلك ومدار خاص به في نظام محكم لا يسبق فيه كوكب نجم، وبالرغم من هذه الحقائق الربانية، ورغم أن الباحثين والعلماء عكفوا على الوصول لهذه الظواهر الكونية التي ورد ذكرها في القرآن حتى من غير المسلمين، إلا أن معاقبة العلماء على يد الكنيسة ورجال دينها المحرَّف سار في اتجاه مغاير لما أخبرنا عنه القرآن.
لقد نال العالم الفلكي غاليليو العقاب على يد رجال الكنيسة وتم سجنه. فهل في دين الإسلام ما يؤيد هذا النهج الأعمى؟!

قطعًا الإجابة ستكون بـ«لا»، والدليل أن أول ما نزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)» سورة العلق.

وقوله تعالى ليبين العلاقة التوافقية بين العلم والإيمان والعلم والقرب من الله وخشيته وليس العداوة والحرب عليهم، كما حدث بين العلماء والكنيسة، يقول الحق تبارك وتعالى «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ أن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)». سورة فاطر.

أي أن العلماء يخشون الله بسبب ما وصلت إليه عقولهم ومداركهم في شتى العلوم، وأنهم بعلمهم هذا أقرب إلى اليقين الذي لا يساوره شك وإلى الإيمان الذي يزداد رسوخًا مع تقدم العلم والاكتشافات في سباق مستمر وتطور دائم نشاهده أمامنا متسارع الخطى عامًا بعد عام وجيلًا بعد جيل، كينونته تكمن في قول الحق تبارك وتعالى «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)». سورة فصلت.

وتظل المحصلة النهائية والحقيقة الأزلية هي قول الله سبحانه وتعالى «وفوق كل ذي علمٍ عليم».

إن الذين يلوكون مصطلح العَلمانية ويحاولون استنساخه في المجتمع الذي يدين بدين الإسلام، هم في الواقع يعانون ازدواجية الجهل من جانبين، أي أنهم يجهلون طرفي المعادلة.

الطرف الأول، هم لا يعرفون شيئًا عن ما كان يحدث في أوروبا التي ثارت على رجال الدين وطالبت بفصل ما أطلق عليه لفظ «الدين عندهم»، عن أمور الحياة الدنيوية، ولم يدركوا ولم يستوعبوا أن الذي ثارت عليه أوروبا ونبذته شعوبها ليس دينًا أصلًا، ولا علاقة له بالمسيحية التي جاء بها عيسى.

الطرف الثاني من مجهول المعادلة لديهم، هم لا يعرفون أيضًا أن الدين الإسلامي هو دين بطبيعته يكون مركبًا أساسيًّا في جسد الفرد المسلم ومجتمعه ويسري فيه سريان الدم في العروق، وإن الإسلام هو حركة يومية ديناميكية تلامس أبسط متطلبات الحياة ابتداءً من التحية بالسلام مرورًا بالوقوف بين يدي الله خمس مرات في اليوم والليلة، إلى الحمد والتسبيح والاستغفار الدائم وكما أمرنا الله، إنه الدين الذي يراقب ويحصي ساعات العمل والدعوة لدفع الأجر قبل جفاف العرق، وتنظيم التجارة والعقود والزواج والطلاق والحدود والزكاة والصدقة كحل اجتماعي تكافلي للمعوزين في المجتمع، كلها حركة ديناميكية دؤوبة ودائمة ليلًا ونهار.

إن الدعوة لمحاولة فصل هذا الدين عن الحياة اليومية كتقليد أعمى لما حدث في المجتمعات المسيحية، هو عبث طفولي وجنون وهو أشبه بفصل الرأس عن الجسد أو شفط الدم من العروق.

هناك أزمة حقيقية وقع فيها دعاة العلمانية وهي عدم دخولهم إلى نمط وعقل الكنيسة ورجال الدين الذين أراد الناس الانفصال عنهم وقذفهم إلى مزبلة التاريخ حتى نهضت أوروبا وانطلقت نحو التقدم والعلم والعمل والتألق في كل مناحي الحياة، وأصبحت تقود الأمم الأخرى علمًا واقتصادًا ونهضة، ولكن في المقابل كان الفهم الواعي والمنطقي للإسلام والالتزام به كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح أبواب البحث والتراجم والانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى من فرس وروم وإغريق، والسعي والبحث من أجل العلم والحث عليه، والعمل بمنهج الإسلام وتطبيقه كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو السبب في التقدم الحضاري والعلمي والازدهار في الطب والفلك والعمارة والجغرافيا الذي وصل إليه المسلمون في زمن نهضتهم وحضارتهم قبل أن يحاول أعداء الإسلام إلصاق تهمة الإرهاب والعنف والقتل والدمار كما يصدره الأعداء باسم الاسلام وربما عبر منابر محسوبة على الإسلام والمسلمين اليوم.

إن ما نحن فيه اليوم من ضعف وهوان ما هو إلا بسبب البعد عن جوهر وبريق إشعاع الإسلام حتى نكاد إن لم نكن وقعنا في نفس الانحراف والمسار الذي انتهجه الرهبان المسيحيون وأدى بهم إلى التخلف علميًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. مطلوب اليوم من علماء المسلمين الحقيقيين الباحثين منهم في مختلف أنواع العلوم والمنفتحين على حضارات الأمم وما وصلت إليه، والقوى المؤمنة والأمينة والصادقة والمعتدلة، التي تحرص وتغار على هذه الرسالة المحمدية السمحاء أن يعيدوا النظر ويراجعوا الموروث والتاريخ ويضعوا عربة القطار على السكة من جديد، حيث أدار محركها محمد صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة، وأرسى دعائم أول دولة مدنية متعددة الديانات والأعراق تنظمها شرائع وتحكمها قوانين تعمل في نسق وتناغم رغم تباين وحداثة الدين الجديد، وكيف استطاعت من بعده الخلافة الراشدة السير قدمًا على نفس النهج وأرست دعائم أول مجلس للشورى في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه، وقبل اشتعال الفتنة في العام السابع والثلاثين من الهجرة النبوية الشريفة، التي لا زال دخانها يحجب الرؤية ويخنق الأنفاس حتى هذه الساعة.