Atwasat

كيف تستفيد الفوضى؟!

نورالدين خليفة النمر الأحد 24 مارس 2019, 12:48 مساء
نورالدين خليفة النمر

الفارق بين ليبيا وجارتها الغربية الجزائر أن الأولى منذ انقلاب العسكر 1969 على الملكية إلى 2011: الثورة الشعبية العفوية على الفوضى الجماهيرية، أن ليبيا فوضى مبرمجة أو منفلتة تتخللها فوضويات، بينما الجزائر فهي دولة تحيق بها أزمات قد تصل أحيانا إلى تخوم الفوضويات ثم تتراجع عنها. بينما ليبيا لايبدو في الأفق القريب أن تعود حتى إلى شبه استقرار الدولة الملكية1951 - 1969 في أدني شروطها الغابرة.

حكى لي أحدهم في فبراير 2012 أنه زار صاحباً له في بلدة نالوت الجبلية الليبية وهي متاخمة لجنوب تونس عبر منفذ ذهيبة الحدودي وقريبة من حدود الشمال الشرقي الجزائري. وهو يتجوّل به في أطراف بيته أراه جابية (فسكية) منزّحة من الماء تربض فيها دبّابة مجنزرة غنمها المُضيّف من فلول كتائب النظام الدكتاتوري المُسقط في ليبيا أثناء اجتياحها عام الثورة الشعبية 2011 لبلدات الجبل الغربي المتمرّدة. سأل الضيف مضيّفه النالوتي ماذا تنوي فعله بهذه المجنزرة؟! التي لامكان لها في فوضى السلاح الليبية ولعدم نجاعتها في بيئة النزاع الليبي إزاء تويوتا الدفع الرُباعي المسند عليها مدفع 14.50 أو مقذف صواريخ دوشكا. فأجابه هذه المجنزرة دورها سيأتي في فوضى الربيع الجزائري القادم عندما سيقوم بتهريبها عبر الحدود وبيعها هناك لتفعل فعلها في جبال أطلس.

أنا من جيل خمسينية الاستقلال الليبي 1951 - 1955 ولادته تواقتت مع هبوب غمار حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي نوفمبر 1954، وتفتحت مداركه على ملحمة الشعب الليبي تقوده ملكيته وحكوماتها في دعم أشقائه الجزائرين ببذل الغالي والرخيص في تحريرهم من ربقة الأستعمار. أحد الدواعم بأن مرّرت الحكومة الليبية بإشراف ضباط بوليس كبار من طرابلس أسلحة وذخائر هدية الحكومة التركية في عهد عدنان مندريس إلى الثوار وتهريبها عبر الحدود بواسطة ليبيين سائقي شاحنات وخبراء مسالك الصحراء وإيصالها حيث قواعد الثوار في جبال أطلس.

منذ انقلاب العسكر 1969 ترك الليبيون اهتمامهم بالجزائر ليتولاه قادة الانقلاب وزعيمهم الذي بدأ ناصريا متهوراً إزاء الرئيس الجزائري بومدين الذي انقلب على رفيقه المتهور الناصري بن بيلّة ليعيد الجزائر مصححاً ثورة تحريرها في نطاق وطنية تحيطها في أضيق الحدود اهتمامات متضاربة بجاراتها المغاربيات وتخومها بلدان القارّة الأفريقية وقد توّخت الجزائر أن تكون نموجذها التنموي والسياسي.

تفهم الليبيون سياسة الباب الموارب إزاء الدكتاتور وشعبه المنتفض عليه التي أتبعثها السلطة الجزائرية ودبلوماسيتها إزاء التغيير الشعبي الليبي للحقبة الدكتاتورية 2011 والمماطلة في الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي. ولكن صدمتهم كانت كبيرة من ردّة فعل شعب الجزائر بحيث اصطف وراء قيادته السياسية إزاء تورثهم.

لتفهم سوسيولوجيا معضلة انتقال السلطة في الجزائر اليوم ينبغي الرجوع إلى كتاب عنونه الناشر بالفرنسية بـ"السنةالخامسة للثورةالجزائرية" ووضع له مترجمه للعربية عنوانا موّفقا هو"سوسيولوجية ثورة" ولكن مضمونه وروحه تعدّى هذا العنوان ليكون سوسيولوجية أمة جزائرية على مشارف التحرّر حيث تلتبس منذ اليوم الأوّل لاستقلالها إخفاقات النقص المجتمعي.

فرانتز فانون الذي قارع فكرياً الاستعمار وهو يتمدّد في صيغته الإمبريالية مابعد الحرب العالمية الثانية مات للمفارقة في مستشفى في الولايات المتحدة الأميركية بسرطان الدم في فجر الستينيات، لهذا لم يتمكن من رؤية كل شيء أمامه: حقيقة الإخفاق المرّ للبشر الذين يشبهون للأسف والى حد ما بما نفاه عنهم كتل الحجارة الصلبة والذين تقريبا ينهون مشوارهم كما بدأوه وهو ما تجلى في توابع وزوابع مابعد انتصار الثورة باستقلال الجزائر عام 1962: الانسداد السياسي الذي متلثه أحادية حزب جبهة التحرير، التخلي عن اشتراكية التسيير الذاتي والنكوص إلى الدولتية السوفياتية. حيث اختفى خلف الشعارات الفلاحية تنامي اقتصادها التابع (الكمبرادوري) وبعد ذلك الدولتي الممركز، التصاعد الجديد لأسلام أصولي فظّ ودموي وماضوي، الأنغلاق الثقافي والمجتمعي الذي قاد الجزائر إلى نفق الحرب الأهلية فيما سمّي "بالسنوات السوداء" التي لازالت جذورها المسمومة تنبت في أرض الجزائر حتى اليوم وكل معطيّات ضروب الفشل التي لفت الانتباه إلى بعضها المفكر والاقتصادي المصري الشهير "سمير أمين" في كتاباته العديدة وحلّلها بتبصر وعمق فيما بعد "غازي حيدوسي" خبير التخطيط الاقتصادي والمفكر الجزائري الذي واكب تجربة السياسات المغلقة والتنميات المهدرة قرابة ثلاثة عقود في بلده ما أسماه في كتابه الذي صدر بالفرنسية عام 1995 بعنوان "الجزائر: الاستقلال الناقص"، وهو النقص الفادح الذي ملأه استيلاء جنرالات الجيش الوطني وهيمنتهم على السلطة حتى يوم الناس هذا.

سوسيولوجيا الجيش الجزائري ومخاطر تفكك السلطة السياسية هو العنوان الذي يصور معضلة نقل سلطات الرئيس بوتفليقة المعاق منذ 2013 على كرسي المُقعدْ وجيله الهرِم الذي استنفدته السنين، إلى جيل من الشباب الذي أعاقته البطرياركية الأبوية من أن يتبوأ مكانته في تقرير مصير الجزائر منذ 10 سنوات.

إن خصوصية الجيش الجزائري هي معضلته في كونه قد خلق الدولة الجزائرية وليس العكس. تؤكد هذه الفكرة الباحثة الفرنسية ميراي دوتاي Mireille Duteil عندما تقول “بصفة عامة، أراد الجيش في الجزائر أن يكون مالكا للدولة التي صنعها. فهو الشرعية وهو السلطة”. ويقول فؤاد الخوري في مجال آخر “إن الجيش العقائدي معد لا لأداء دوره على الحدود فحسب وإنما للمساهمة في بناء المجتمع وتطويره”. كما يعتقد الباحث الجزائري عبد القادر يفصح بأن الجيش الجزائري “قد فضل دائما الظلام عن الضوء. وعمليا، هو الذي فرض وضمن الاختيارات السياسية والاقتصادية الأساسية في البلاد. كذلك، هو الذي فرض كل رؤساء الجزائر المتعاقبين الذين عرفتهم منذ الاستقلال ”فالرئيس بوتفليقة الذي تولى منصب وزير خارجية في حكومة بومدين 1964 - 1978 هو في بدايته التحق بعد نهاية دراسته الثانوية بصفوف جيش التحرير الوطني الجزائري عام 1956.

كل التطوّرات تصب في صالح رئيس سياسي بعد بوتفليقة ، لم تكن له صلة مهنية بالجيش ، ولكن الجيش سيتبنى ضغط الشارع، لتنصيب هذا الرئيس الذي تشير كل المعطيات إلى أنه سيكون وزير الخارجية الأسبق، الأخضر الإبراهيمي. ولكن الصحافي عثمان تزغارت يرى بأنّ رئاسة الإبراهيمي ستكون لفترة انتقالية طرأت نتاج فشل بوتفليقة في تطبيق خطته البديلة، ويأتي الإبراهيمي بخطة مُعدلة لتهدئة الاحتجاجات، وتنفيس غضب الشباب والتمهيد إلى نقل السلطة لجيل ثانٍ من الساسة يعبر عن مطامحهم. ليتنحى هذا إذا لم يصبح الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي قدوة له.

نفت الحكومة الجزائرية على لسان وزير خارجيتها المعيَّن حديثًا رمطان لعمامرة التراجع عن مساهمتها كـ "عنصر حيوي" مع الجهود الدولية في حل الأزمة الليبية. هل يعني هذا استبعاد المقاربة الأمنية السابقة التي توخّاها سابقه عبدالقادر مساهل والمتمثلة في الإجراءات والمقاربات الكفيلة بتوقي تناثر ما أمكن من شرر الثورة الليبية في المذود مضجع الشعب الجزائري الذي نساه التاريخ.