Atwasat

التكرار لا يُعلم أحدا

أحمد الفيتوري الثلاثاء 19 مارس 2019, 01:42 مساء
أحمد الفيتوري

جدتي تقول من لم يتعلم من الدرس الأول لن يتعلم، حين تجهد في شرح مسألة بديهية وجلية ولا تحتاج لصبغة أو كما ترى، حيث عندها أن من لا يريد أن يتعلم لا يفيده أي مجهود يُبذل معه، فالحياة مرة واحدة وبالتالي من لا يغتنم منها هذا الدرس فإن الموت لا دروس له.

بتؤدة تمنحني درسها ثم تعطيني بظهرها وتذهب إلى شؤونها، حينها كنت طفلا يحبو في الحياة ويتطلع إلى المعرفة وفك الخط، لم تشدني القراءة كما كنت ألهو عن الدرس، فتُعلق من أين ستأتي بمحبة الدرس وأنت ابن أبيك في هذا، والحق معها لم أر أحدا ممسكا بكتاب أو أسمع قارئا، حتى المدرس يمنحنا وقته برما ويشرح الدرس بغضب وغموض يحث على العكس، أن لا نتعلم من الدرس شيئا، لهذا لم يُفد التكرار ولم يضف غير مضيعة الوقت والجهد، وفي هذا الحال تعلق جدتي لا تصدق أن التكرار يعلم الحمار، فهل شاهدت يا ابني حمارا متعلما في السوق أو الحظيرة.

الغريب أن في المدرسة يقسمون الصف لقسمين أحدهما للحمير والآخر لغير الحمير طبعا، لكن رغم أن نصيبي في القسم الأول فإني لم أر من في الثاني يختلف عني، كلنا في الدرس واحد لا نحب القراءة ونبغض الكتابة ومن يكتب، ولم نر المدرس في خلاف ذلك فهو يتلو درسه مشافهة وبينه والسبورة والخط عداوة، لم يطلب فتح كتاب وقلّ أن راجع دروسنا وما خربشنا في الكراسة بتكاسل ولعب وشقاوة ليس إلا.

عند عودتي للبيت أطوح بالحقيبة على عجل أهرول باتجاه رفاق الشارع وأمي تصرخ: المتعلم من ربي، فأصطدم بأول مارٍ بالشارع من يصرخ في وجهي هذا ما تتعلمونه في المدارس يا أبناء الكلب.

ألتقي الرفاق فأجدهم قد أعدوا الملعب لنعاود اللعبة المفضلة، رسموا الدائرة علامة الحبس لمن يُقبض عليه من فريق اللصوص الفارين الذين يطاردهم الفريق الآخر البوليس، وإن قبض على أحد يودع الدائرة، وعندها على فريقه اقتحام الدائرة وإخراجه صارخين: ليبره، ليبره، أي الحرية بالطلياني، لما يخرج فريق اللصوص كل من قُبضَ عليه من فريقهم يتحولون إلى فريق البوليس الذي يتحول إلى فريق اللصوص وهكذا دواليك.

وأما الأشقياء فينا فقد كانوا يمرون أثناء المطاردة من سوق الحي المجانب لبيوتنا ويسرقون ما يتمكنون منه برتقالة مثلا، وما سُرقَ يكون جائزة الفريق الفائز، وإن انتبه صاحب الدكان المسلوب يخرج صائحا: توقفوا يا أبناء المدارس الفاجرة.

تبدأ اللعبة ولا تنتهي وإن تغير الفرقاء من اللصوص والبوليس، فالمطلوب أن لا نعود للبيوت حتى لا نزعج الآباء من عادوا من العمل وهم بسبيلهم للراحة، لهذا يزودوننا بقطعة خبز بالزيت أو ما شابه حتى نقتات، طبعا هذا الزاد يقطع اللعبة بالعراك ومحاولة كل منا أن يغنم نصيب الآخر.

لا أعلم لمَ جدتي من دون الآخرين تمارس سطوتها بأن تباغتني أحيانا مهرولا قرب بيتها فارا كلص من مطاردة فريق البوليس فتمسك بي، تغسلني غصبا وغصبا تدفعني إلى أن أكمل الدرس، كأني بها ترى الدرس ما يكمل حكاياتها التي تسردها لي منذ بدأت أعي الكلام، و في حين أجدها تتسمع لي وأنا أتمتم من كتاب المطالعة خاصة قصة الثعلب المكار التي تعجبني، لأن جدتي لقبتني بالثعلب لبراعتي في التسلل من البيت دون أن تفطن حتى تسمعني أصرخ في الشارع: ليبره.

كثيرا ما وجدت نفسي تتحدث مع نفسها محتجة في غبن من فعل الجدة، فأرسم دائرة بلعابي على الحائط ثم أوبخها باعتبارها وقعت في الحبس وأقرعها بأن التكرار لا يعلم أحدا، وأن من لا يريد أن يتعلم لا يفيده أي مجهود يُبذل معه، ثم أخرج لها لساني: متى تتعلمين ذلك يا جدتي، التي تُخرج أيضا لسانها لي ثم تقول: ما ينفع الكتاب في من شابْ.

أصير وجدتي في الدائرة.