Atwasat

عتمة تحجب الضوء

آمنة القلفاط الأحد 17 مارس 2019, 12:01 مساء
آمنة القلفاط

العمل في الدول المتقدمة شاق ومرهق ويحتاج جل أوقات النهار. لديَّ صديقة تعمل في إحدى المؤسسات في بريطانيا، تقطع المسافة الطويلة لعملها طوال أيام الأسبوع، ذهابا وإيابا، ولأن التعب كان يسيطر على حواسها، فقد تجد نفسها أحياناً، تستغرق في إغفاءة أثناء القيادة، تتكرر كثيرا وهي صائمة في شهر رمضان. لخوفها من حوادث الطرق، سعت للحصول على فتوى أباحت لها الفطر، وتعويض أيام رمضان في أوقات أخرى من السنة يكون فيها طول اليوم أقصر وبالتالي الصوم أسهل. 

في ذات السياق، سمعت عن فتوى صدرت لمن يعيش في الدول الاسكندنافية والتي يصل طول النهار فيها إلى ٢١ ساعة، بما يؤدي لصعوبة العمل أو الدراسة مع الصيام. وعليه فقد صدرت فتوى من عدد من دور الإفتاء، مفادها تقليل ساعات الصوم، لمن يشق عليه نتيجة العمل أو الدراسة، ومقاربة ساعات الصوم مع دول إسلامية، أو تعويض الصيام في أوقات أخرى من السنة.

تغيرت أيضا لهجة خطاب دار الفتوى السعودية فيما يخص الغناء والموسيقى وقاربته بأهمية وجود الأمن والأمان.

الحقيقة تذكرت الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة عندما أفتى بجواز الإفطار لأصحاب الأعمال الشاقة، والذين يتعذر عليهم الصوم والتركيز في العمل، بما يقلل من إنتاجية العامل. عرف عنه أيضا، أنه حاول ثني التونسيين عن تكرار فريضة الحج والعمرة، لما فيه من إهدار للعملة الصعبة. كما صدرت في عهده مجلة الأحوال الشخصية، في سابقة انفردت بها تونس في ذلك الوقت، لتصدر تشريعات مثل منع تعدد الزوجات، ورفع سن الزواج للذكور والإناث، كما أصدر قانونا يسمح بالتبني وللمرأة بالإجهاض. وكمحصلة لنهج بورقيبة الليبرالي، تعزز في تونس دور التعاونيات الفلاحية والصناعية والنقابات العمالية الحرة والمستقلة، إلى حد كبير.

اتصفت حقبة حكم بورقيبة بالدخول إلى مساحات لم يعتدها العقل العربي، والتي كانت إلى حد ما تتماهى في نهجها مع الحركات الفرنسية؛ التي حرصت في ذلك الوقت على تطبيق مبادئ الحقوق والحريات. نادى بورقيبة بالإصلاح والتجديد، كنتيجة لإعجابه بما وصلت إليه فرنسا. فهل الإسلام يعيق الإصلاح؟ وهل يمكننا الفصل بين العادات الجامدة والمتراكمة وبين روح القيم الإسلامية السمحة؟

الشارع العربي والإسلامي، اتصف بالتشبث الشديد ببعض بالعادات والتقاليد، المتصلة إجحافا بالثقافة الإسلامية. لقد حرص عليها واستعملها كوسيلة دفاع ضد القيم الوافدة، لم يجتهد لتنقيتها وفك ارتباطها المكبل للقيم الإسلامية الحنيفة. 

رفضت سياسات بورقيبة المتفتحة للحريات، ونعت بأوصاف الكفر والإلحاد. مما أدى إلى جعل العقل الجمعي، المتحفز في ذلك الحين لرفض كل ما يأتي من المستعمر، جعلته يلفظ ويرفض، بل ويحارب قيم الحداثة منذ بداياتها الأولى. ترسخ في العقول رفض العلمانية بل وتكفير من يسوق لها. الأسوأ من ذلك، أن الحداثة عرفت بتعريف ضيق لصيق ومرادف مع قبول المستعمر.

في الواقع، لم نربط أو نقارن بين القيم الإسلامية التي تنادي بالحرية والعدل وحب العمل والإخلاص له وإتقانه، والدعوة للتسهيل والتخفيف التي نادى بها، وبين القيم الوافدة من الحضارة الغربية. رفض بالمجمل، دون بحث واستقراء. القيم الإنسانية واحدة في كل الديانات وهي لا تتجزأ. ما تطلع له أبطال الحرية على مدار التاريخ ونجحوا في تحقيقه، هو مطلب إنساني لا يتعارض مع السنن الكونية في أوجه عديدة.

تغيُر أحوال الزمان يدعو دائما للتأقلم معه، ومعرفة كيفية مواكبة مستجداته. مجمل الموروث الثقافي لا يحمل صفة القداسة، وأحيانا يصطدم بعض الموروث مع نصوص دينية واضحة الدلالة. كيف يكون ديننا صالحا لكل زمان ومكان وباب الاجتهاد مقفل منذ قرون عديدة؟ تأخرت الطباعة عن العالم الإسلامي ما يقرب من القرنين ونصف، بسبب فتوى، كما أن القبول بالقهوة، تخللته حوادث إحراق المقاهي وتشهير بمرتاديها، وجدل فقهي حولها استمر ثلاثة أجيال. اعتبر استعمال ماء الصنبور في بدايته، بدعة ولا يصح الوضوء به. التقنيات الإلكترونية جميعها، عُدت وسائل لإفساد عقول المسلمين ونشر الرذيلة. مررنا بسد من الفتاوي الخرسانية، يأخد من الوقت والجهد الكثير لينهار أمام حقائق الحياة وحاجات الناس. علينا مواجهة الحقائق ووضع حاجات الناس وما يُسهل حياتهم نبراسا نهتدي به مع النص الإلهي المعجز والذي يكمن في آياته سر بقاء الأمة وقوتها.