Atwasat

المعايرة الطبقية بالاستهلاك

نورالدين خليفة النمر الأحد 17 مارس 2019, 11:59 صباحا
نورالدين خليفة النمر

شدّني عنوان تقرير أُشير فيه إلى وجود طبقة وسطى في ليبيا نشرته صحيفة الوسط أفاد بأنها "تتلاشى،.. و 45% من الأسر الليبية تعيش تحت خط الفقر، واستند التقرير على تصريحات منها إفادة خبير اقتصادي ليبي لم يحدّد الجهة التي يتكلم باسمها بأن نسبة الزيادة القياسية في معدلات الفقر أدت إلى تلاشي الطبقة الوسطى وانضمامها إلى الفقراء، كنتيجة للتوسع في الإنفاق المالي على حساب التنمية.

ذكرني المعطى الإحصائي والاستنتاجي لتعيير طبقة غير موجودة تاريخياً بمعامل الاستهلاك العشوائي في هذا التقرير بكتاب صدر عن الهيئـة القومية للبحث العلمي ببنغازي بعنوان أعمال ندوة الاستهلاك في الاقتصاد الليبي. تاريخ إصداره عام 1990، حيث استخذم المشاركون في أبحاثهم معطيات بيانية وإحصائية مُلفقة في العشرية الثمانينية حيث لم يكن هناك استهلاك، وإنما كان هناك فقط وهم إشباع الحاجات الأساسية المبدأ الذي تأسست عليه بدائية النظرية الاشتراكية الجماهيرية.

تيقنت الأتوقراطية الليبية المُسقطة بثورة ليبيا الشعبية 2011 كغيرها من أوتوقراطيات الأنظمة الشمولية بضرورة النأي بالمجتمعات التي حكمتها عبر الشريحة الملّقنة بدون وعي مجتمعي وفكري علوم وتطبيقات أكاديميات الغرب عن بناء منظومة متماسكة وذات صدقية من البيانات والمعلومات. ففي نظام شمولي يصبح من المناسب للحاكم بأمره أن يكون المجتمع الذي وضعه في نفق أوهامه وفوضوياته في حالٍ لايقيني. فالواقع المضبّب بالأوهام المُضلّلة يؤسس لعدم اليقين الذي يتيح المناخ لتجنب التقييم والمراقبة والمقارنة، ومن ثم المساءلة الموضوعية.

من يرجع إلى كتاب "أثر البترول على الاقتصاد الليبي: 1956-1969 " ــ منشورات دار الطليعة ببيروت 1971 للمخطط الاقتصادي الليبي علي عتيقة يُدرك أن قاعدة تحليلاته الصائبة واستبصاراتها الاقتصادية والاجتماعية أسست لها بيانات التقارير التي أصدرتها مكاتب الأمم المتحدة المتبنية للاستقلال الليبي 1951 في الحقبتين ماقبل اكتشاف وتصدير البترول ومابعده حتى تاريخ انقلاب الجيش علي الملكية 1969 التاريخ المشؤوم المنتهية به تحليلات ورؤى الكتاب والموثق في عنوانه .

في خُلاصة موّصفة ينتهي عتيقة في كتابه الآنف الذكرإلى أن الاقتصاد الليبي قبل البترول كان اقتصاد كفاف تمتع بدرجة عالية من الاكتفاء الذاتي فيما يتعلّق بالمواد الغذائية الرئيسية. فبسبب انخفاض مستوى الدخل القومي كان الطلب على السلع والخدمات منخفضا مما خلق نوعا من التوازن بين الإنتاج الوطني الفقير واستهلاكه المحدود . ولكنه يستطرد منبهاً إلى أن هذا النوع من التوازن بين الطلب والعرض لم يكن نتيجة لكفاءة الإنتاج كما يتصور الكثيرون ولكنه كان يمثل خلاصة التوازن بين عناصر التخلّف الاقتصادي والفقر المادي. فانخفاض الأسعار الذي كثيرا مايُتحدث عنه وقتها بإعجاب لم يكن نتيجة للازدهار الاقتصادي، ولكنه مثّل ظاهرة عامة من ظواهر اقتصاديات الفقر .
وفي سياق رؤية اجتماعية تتعدى التحليل الاقتصادي، وتموضع مسألة التخلف الذي لابس البداية لمعظم البلدان النامية، أوبالأحرى الفقيرة، التي ليبيا المستقلّة عام 1951 نموذجها الأمثل حتى نكون في قلب الفهم للمشكلة، بالإلماح إلى وجود حلقة مفرغة بين الفقر والجهل. فالمستوى المنخفض من الدراية الفنية والعلمية في ميادين الإنتاج يؤدي إلى قلة الإنتاج وانخفاض الدخل مما يسبب انخفاضا في الاستهلاك والتوفير، وبالتالي انخفاض الطلب على السلع والخدمات، الأمر الذي لايشجّع على زيادة الإنتاج والاستثمار.

ننتهي من التاريخ 1969 الذي ختمت به تحليلات الكتاب لندخل في المنعطف التغييري الليبي الذي اقترفه انقلاب الضباط صغار الرتب على الملكية والذين تبنوا القوميات والسياسات والتطبيقات الاشتراكية الانتهازية بمبدأ التجربة والخطأ التي سارت عليها مصر الناصرية، ولكن موت زعيمها 1970، فتح الباب لتغييرات سياسية أعقبته مهدّت للتواطؤ مع الحقبة النفطية التي تصدرّتها المملكات والإمارات الريعية العربية المترفة والتي ساعدت برفع أسعار النفط في إنجاز نتائج الحرب المصرية ـ الإسرائيلية أكتوبر 1973، التي أرهصت لاتفاقية سلام مع إسرائيل 1977 ، وفتحت في الوقت ذاته أبواب الاشتراكية في نسختها البرجوازية الوسطى المصرية لرياح الرأسمالية بما سمّي بتجربة الانفتاح التدريجي على اقتصاد السوق الحُرِّ والتصرّف فيما عرُف باقتصاد القطاع العام في تكوين الشريحة الكومبرادورية التي تُفسخ الاقتصاد والمجتمع لأزيد من ثلاثة عقود حتى اليوم.هذا المآل مثل الخُوّاف المستبّد بالدكتاتور الليبي الذي تصدّر السلطة بترؤسه لما سمّي مجلس قيادة الثورة وتنظيمه العسكري العشوائي: حركة الضُباط الوحدويين الأحرار. الانقلاب العسكري المضاد الذي سيحيكه بعض الرفاق. فيما تحقق بمحاولة أغسطس العسكرية المُفشلّة عام1975 التي تصدرُّها ضباط من مدينة مصراتة التجارية.هذا الحدث غذّى رهاب المحاولات العسكرية المدبرة بين العسكر وشريحة التجار، وأثمره بالتعجيل في إصدار الجزء الثاني من الكُتيّب الأخضر بعنوان حلُّ المُشكل الاقتصادي لتفكيك مشروع اقتصاد الخدمات الذي بدأته البرجوازية الوطنية الليبية.

تعميق المُشكل الاقتصادي، الذي أُسس له مجدّداً بتغول الريع النفطي الذي فسخ البنيات الكفافية للمعاش البشري محوّلها إلي بنيات استهلاكية وليس حلّه هو محور التنظير الفوضوي في كل متوجهات التأليف القائم إلى توّسع القاعدة المجتمعية المكتسبة لريع النفط دون مقابل حقيقي من العمل، والمستهلكة للمرتبات والقروض والهبات التي أسست للزبونية السياسية التي طالت فئات اجتماعية مخلخة الوطنية، وقبائل نهابة للرزق، فيما يمكن توصيفه بـ "البتلرة الرثة" للمجتمع في عمومه حيث أصاب التفقير والضنك الليبيين في عمومهم.

من خلال بنية رسمها في “الكتاب الأخضر” وطبقها الدكتاتور. تمدّدت أوتوقراطيته في مفاصل المجتمع الليبي، التي تجلّت في تكوين هياكل وتنظيمات سياسية ومناطقية أتاحت له الهيمنة على النظام السياسي والتأثير في التطورات الاجتماعية والاقتصادية الفاعلة بدون أن يخضع للمساءلة. ولاشك أن هذه الهيمنة وانعدام المساءلة ما كان يمكن أن تكتمل بدون سيطرة موازية على ما يمكن تسميته بدون تدقيق علمي الطبقة المتوسطة. فمن خلال توسع الاستخدام أو التوظيف في أجهزة الدولة ومنشآت القطاع العام, فإن هذه الطبقة ترعرعت في “قفص” الدولة وتحت سيطرتها. ولقد نتجت هذه السيطرة من تبعية اقتصادية تعود إلى مصدر الدخل وتبعية سياسية ـ أمنية تعود إلى القضاء على التيارات السياسية المناوئة بالقوة والعنف وفرض الإيديولوجية الجماهيرية وقيام نظام شمولي أمني. وهو ما آل بالطبقة المتوسطة رغم الشكوك التي تُخامرنا أساساً في وجودها بليبيا أن تستمر بمتبقٍ من هذه التبعية لـ 4 عقود من الزمن، وانتهت بمتغير درامي عام 2011 لثورة لايقودها ثوار يضعون التغيير الثوري في سياسة، ومؤسسية وطنية ترمي إلى إنشاء ملامح دولة تنقذ المجتمع الذي كابد طويلاً من براثن الفوضى.