Atwasat

رسائل من برقة

جمعة بوكليب الإثنين 11 مارس 2019, 03:54 مساء
جمعة بوكليب

كتاب صغير الحجم، عميق المحتوى، كبير القيمة، صدرت طبعته الأولى في عام 2009، وجدته ملتحفاً بغبار النسيان، ملقياً على سطح رف خامل، في مكتبة بالظهرة، خلال زيارة مؤخراً إلى طرابلس، وبدلاً من قراءته، اخترت أن أعهد به، مؤقتاً، إلى رفّ صغير آخر، ضمن رفوف عديدة في مكتبتي المنزلية، على أمل قراءته في وقت لاحق، لكني نسيته، وظل ينتظرني حتى تذكرته. وحين انتهيت من قراءته، ارتأيت، بعد تردد، كتابة سطور حوله، لعلها تفيد في لفت اهتمام بعض القراء المهتمين إليه، رغم مرور سنوات على صدوره.

الكتاب: "رسائل من برقة" لمؤلفه المرحوم المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة، يحتوي على 317 صفحة، صادر عن مركز الدراسات الليبية – اكسفورد، بالمملكة المتحدة، وراجعه الاستاذان المرحوم يوسف المجريسي مؤسس المركز ومديره وأحمد بسام ساعي. وتكفل المرحوم المجريسي بكتابة مقدمة قصيرة، وكلمة وداع في آخره، وصف فيها العلاقة التي جمعته بالمؤرخ ولقاءتهما في بيروت، وما قدمه زيادة للمركز من إسهامات قيّمة.

احتوى الكتاب رسائل يومية كتبها المرحوم زيادة إلى زوجته مرغريت، أثناء وجوده في بنغازي، خلال أشهر صيف عام 1949، للعمل نائباً لمدير إدارة المعارف الإنجليزي المستر غوردون، في فترة الانتداب البريطاني في برقة. وهي الفترة التي تؤرخ لبدء وصول العديد من الأسر الفلسطينية إلى برقة والإقامة بها، أحضرها البريطانيون معهم بغرض الاستفادة من خبرات رجالها في تسيير شؤون الإدارة، والحفاظ على الأمن، حيث انخرط عديدون منهم في جهاز الشرطة، والترجمة، والتعليم، والأشغال العامة. ضمّ الكتاب كذلك رسائل أخرى قليلة وصف زيادة فيها رحلته المرهقة براً بالحافلة إلى مدينة طرابلس، ورسائل أقصر وأقل عدداً، خلال وجوده في مالطه، في طريقه جواً إلى دمشق. كما شمل الكتاب ثلاث رسائل أخرى كتبها المؤلف إلى زوجته، خلال زيارة عمل قام بها إلى بنغازي في صيف 1951.

لدى وصوله إلى برقه، تاركاً أسرته وأهله في لبنان، كان المرحوم نقولا زيادة في بداية حياته الزوجية والمهنية، وفي فترة تاريخية حرجة جداً، وسمتها نكبة فلسطين، وإعلان قيام دولة اسرائيل، وهزيمة الجيوش العربية، وبدء محنة النزوح الفلسطيني عن الوطن، واللجوء في البلدان المجاورة، وفي غيرها من دول العالم. وكانت ليبيا قد خرجت لتوها من جُبّ الاحتلال الإيطالي، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، ومعاناة أتون الحرب العالمية الثانية، فقيرة، منهكة، بأمل أن تحظى باستقلالها، وتتنفس، أخيراً، هواء حرية افتقدتها لعقود عديدة، وتاقت إليها، متطلعة إلى بدء مرحلة جديدة في تاريخها.

من الممكن قراءة كل رسائل نقولا إلى زوجته في جلسة واحدة، لقصرها، ولأهميتها، وما تحمله بين سطورها من هموم ومتاعب وخوف وأمل، ومايغمرها من حب ولهفة واشتياق. وأيضاً، لما تحويه من معلومات دقيقة، التقطتها عينا المؤرخ الشاب آنذاك، لمناحي الحياة المختلفة في مدينة بنغازي، ولغيرها من مدن برقة، التي أتاحت الظروف للمرحوم زيادة زيارتها بحكم مهنته، في فترة تاريخية مهمة. ولما كان يراه ويقابله في حياته اليومية وينقله إلى زوجته، ملتفتاً بوعي المؤرخ وحرفيته، إلى عقد مقارنات بين مناحي الحياة في بنغازي، وقتذاك، ومحدوديتها، وبين تعقد الحياة وزخمها في فلسطين، وفي لبنان. وطالت المقارنات كل شيء، حتى مذاق الخضر والفواكه، وأسعارها، وطبيعة سير الحياة اليومية، والسلوك العام، والطقس، والطعام، وأجواء العمل في مكاتب الإدارة، وسلوك الليبيين مهنياً في تلك المكاتب، وما كان يتعرض له في العمل من مضايقات نتيجة لغيرة مرؤسيه في الإدارة من الليبيين، ورغبتهم في إزاحته من منصبه على اعتبار أنه أجنبي وغير مسلم. كما تسلط الرسائل الضوء على ما كان متواجداً في بنغازي من جاليات عربية قادمة من فلسطين ومصر، وأوروبية، وتلفت الانتباه إلى ما تبقى في بنغازي من جنود ألمان، وقعوا في الأسر، واختاروا البقاء والعيش فيها عقب انتهاء الحرب.

هناك نقاط عديدة لافتة للاهتمام:
أولها: وجود بنية تحتية، تعد جيدة، مقارنة بالظروف، وقتذاك، للخدمات البريدية. كان المرحوم زيادة يكتب رسائله، ويبعث بها من خلال مرفق البريد العام في المدينة، إلى زوجته في لبنان، وإلى أصدقاء ومعارف آخرين في بلدان أوروبية أخرى، بشكل يومي ومنتظم، ويستلم الردود بانتظام.
ثانيها: تبرز عقدة كره الأجنبي في ليبيا، وتبدو ناتئة من خلال معاملة المفتشين والموظفين الليبيين في الإدارة، ومكائدهم الهادفة لإزاحة المرحوم زيادة عن منصبه، متجاهلين عروبته، وماساته الشخصية وأسرته في نكبة بلاده، وما يحمله من مؤهلات علمية، وخبرات في الشؤون الإدارية في مرفق التعليم.
ثالثها: يتعرض المرحوم زيادة بقدر يسير للتطورات السياسية في برقة، وينقل إعلان استقلالها. كما يتعرض لعلاقته ببعض أعضاء جمعية عمر المختار. ويسلط الضوء على الأمير(الملك فيما بعد) المرحوم محمد إدريس السنوسي وأفراد الأسرة السنوسية وعددهم، وحرصه على الإشارة إلى حب أهل برقة للأمير، وبغضهم لأفراد عائلته.
رابعها: لا ينسى المرحوم زيادة وصف وضع المرأة في بنغازي في رسائله إلى زوجته، وما ترتدي من أزياء، وندرة تواجدها في الحياة العامة، وينقل إلى زوجته خبر صدور نتائج الشهادة الابتدائية في برقة، وتميّزها بحصول فتاة على الترتيب الأول.
خامساً وأخيراً: لم تقف شؤون العمل، ولا تعب الغياب عن زوجته وابنه، ولا مشاغله الحياتية الأخرى العديدة، حائلا بين المرحوم زيادة والتأليف، حيث كان يستغل ساعات فراغه للكتابة، وتمكن خلال فترة إقامته القصيرة، من إنجاز تأليف كتاب عن برقة.