Atwasat

الفلسفة جسر الإيمان

فلاني عبدالرحمن الزوي الإثنين 11 مارس 2019, 02:06 مساء
فلاني عبدالرحمن الزوي

الفلسفة، هي الرغبة في إمكانية امتلاك الحكمة واقتنائها ما أمكن. وهي ممارسة لتمرين عضلات التأمل والتدبر، لاكتساب لياقة الحكمة للوصول إلى غاية وهدف، كل هذا يتم في مداولة بين العقل وخصومه لإثبات حق التمكن من الحكمة وكسبها كقضية محل جدل، الغاية أن يصل الإنسان بحواسه وحسب قدرته على السبح بخياله فيها والتمكن منها. الفلسفة من زاوية أخرى هي ذلك السؤال المتكرر الذي يطرحه الإنسان على نفسه فتجيبه أو يجبر عقله على إيجاد الإجابة، هي رحلة الخيال دون توقف للوصول إلى الممكن، وهي حركة دؤوبة كالصلاة لبلوغ أرقى درجات التواضع والامتثال.

الدين وهو عند الله الإسلام كما نؤمن ونقر، هو أغنى الحقول وأكثرها خصوبة وعطاء ومساحة لانشغال العقل بالفلسفة والإبحار في محيطها، يأتي ذلك بالسعي الدائم لكسب المعرفة، وبلوغ الحكمة بالخوض في معجزته القرءانية وتدبره استجابة للخالق الآمر بذلك نصاً وآيات، هذا المكون الجامع للفلسفة والذي ترابطت عناصره المكونة له، وهي الخالق والكون والخلق والإنسان، لينتج عنه عالم مملوء بالإعجاز في كل ما يحتويه، في أرضه وسمائه وكواكبه ونجومه وكل المخلوقات الدابة والطائرة والسابحة فيه. العقل يسافر متأملاً متدبراً حائراً مشككاً ثم مؤمناً موقناً في نهاية المطاف لا محالة وهذه هي حتمية المآل، إن آخر محطة لقطار الرحلة سيقف راكبه راكعاً ساجداً أمام عظمة الخالق وصدق اليقين لأن الله سبحانه وتعالى قال وقوله الحق (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53 )). سورة فصلت.

الإسلام بهذه الديناميكية هو أشبه بكائن حي متطور يتمدد ويتفرع ويكشف عن آفاق وذخائر جديدة مع تقدم العلم والعصر وتطور البشرية في رحلتها، يأخذ معه الدنيا وما على ظهرها من وجود منظور صاعداً بها نحو قمة الرقي الحضاري والتقني، ثم إلى وجود آخر في عالم الغيب غير منظور أمامنا اليوم، لكنه يكشف عن وجهه في كل زمن ومع كل اكتشاف، وصفه لنا الله وأنبأنا به فآمنا به دون أن نراه حتى يوم اليوم الآخر أي عند يوم القيامة وهذا هو توأم التوحيد والبراءة من شرك وشهادة الإسلام، لكن هذا التشبيه بالكائن الحي هو لا زال يعيش بين الرمم النافقة من جنسه، تراكمت عبر رحلته الطويلة على الطريق الذي مر ويمر منه جيل بعد جيل ودول تتلوها دول على أنقاضها، يسير نحو المحطة النهاية التي لا محطة بعدها ولا عودة منها، تلك الجثت التي أصبحت بفضل كيمياء التحنيط، عبارة عن مومياءات، تم تقديسها والتعلق والاحتفاظ بها، وتم تجميد العقل وتكليسه إرضاء لها لأسباب متعددة، أهمها وأخطرها تقديسها وحُرمتها باسم الدين، في حين أن كل ما في الدين مارد متحرك. ليست له نقطة تجمد بل دائم الفوران، لا يتوقف عن الحيوية والعطاء والتوالد.

هذه الحالة من التكلس، أصبحت أشبه بتقديس الأولياء الصالحين في حياتهم أو الكهنة المنقرضين من حولهم، والذين حولتهم أممهم بعد موتهم إلى آلهة مقدسة تُقدم لها القرارين وتُعبد من دون الله، فلا يجوز التحدث عنها أو الاقتراب من عروشها الوهمية، فمن فرط حبهم أو انسحارهم بها، وقعوا بين الشرك والتوحيد، ثم الجمود عند درجة الصفر بالرغم من البيئة والمناخ والجغرافية، وبالرغم من كل الأفران والمراجل التي تغلي حولهم في مصانع ومطابخ شعوب وأعراق أمم مجاورة، تعطي وتنتج في بقاع أخرى من العالم، كمحصلة متوقعة ناتجة عن إطلاق العنان للعقل والتدبر بلا خوف ولا قيود، لقد غفل هذا النموذج من بني الإنسان أن يستقريء وينظر إلى الأشجار وهي تتخلص من أوراقها الميتة عاما بعد عام وموسما تلو الآخر مع ثبات جذرها. ورأى أمام عينيه حيوانات تتخلص من قرونها لتستبدلها بقرون قوية شابة بشكل دوري، ومن وبرها وصوفها وشعرها لينبت غيره من جديد يتوافق مع البيئة والمناخ تفادياً للحر أو مخافة البرد وبشكل متكرر.

الدين الإسلامي هو الدين الأوحد وإن تعددت الرسل والرسالات والكتب السابقة لرسالة محمد في طيفه الذي يخلص إلى التوحيد والإيمان بالله وباليوم الآخر. ابتداءً من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، جاء القرءان هو آخر هذه الكتب ومحمد هو خاتم الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم. هذا القرءان لم يترك الله سبحانه وتعالى أي فرصة للعبث به أو تحريفه كما حدث لغيره من الكتب السماوية.

فإذا كانت الكتب السماوية السابقة من توراة وإنجيل أصبحت مادة فلسفية خصبة وساحة رحبة توجت العديد من الأسماء وأصبحوا بسببها فلاسفة يذكرهم العالم ويسطر أسماءهم التاريخ، أثروا البشرية بعطائهم في مختلف فروع المعرفة وبراح الفكر والفلسفة بحكمة وعلم وتجارب علمية، فإن القرءان وما فيه من إعجاز وعلوم وأخبار عن الغيب تتفتق كل يوم، هو أكثر خصوبة وأوسع براحا للفكر والبحث والتأمل، فمن هنا ومن هذا المنطلق كان وسيظل الإسلام والقرءان ككتاب ومعجزة هو أولى من غيره في إثراء الفلسفة والعلوم والاستدلال على أسرار الكون وأسرار الخلق، هذا الأمر ليس تعصباً ولكن كقيمة علمية لا تنتهي كنوزها وأسرارها كلها آيات في الأنفس وفي الكون، ومن هذا المنطلق يكون القرءان جنة من جنان المعرفة ومادة حية دينماميكية لا تتوقف كنبع دافق للفكر والفلسفة والعلوم، وسقفا غير محدود للإبداع والتألق، لأن ما في القرءان لا ينضب ولا ينتهي ولا تجف ينابيعه. (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109). سورة الكهف.

إن الانسان المتدبر لا مناص له من أن يجد نفسه مبحراً في بحور الفلسفة التي تأخذه إلى كم هائل من الأسئلة، تؤرقه حيناً وينام على طمأنينة منها حينا آخر، تأخذه من الشك لتضعه في درب الهداية ونور اليقين، إن الشك هو أكثر الأشياء ضمانا وسلامة للوصول إلى اليقين الراسخ الذي لا يتصدع جداره ولا تهتز أركانه. إن أي نوع من الإيمان ما لم تسبقه ولو عتمة عابرة من عتمات الشك واليأس يظل إيمانا مهزوزا ضعيف المناعة واهن الأساس قابلا للتصدع والسقوط في هاوية الكفر والإلحاد بمفهومها العقائدي واللغوي معاً.