Atwasat

العاصمة من القاصمة

نورالدين خليفة النمر الأحد 10 مارس 2019, 10:59 صباحا
نورالدين خليفة النمر

بلغت ثقافة المجتمعيات الأوروبية بمعناها السائد اليوم ألق توهجّها المدني في تجربتين لافتتين: اليونان القديمة وإيطاليا عصر النهضة. لم تكن جدارتهما مؤسسة في كليهما على نظام سياسي نواته أكبر من الدويلة المدينة، وهو أقصى ما تُوّصل سياسياً إليه حسب التصوّر اليوناني من وسائل التوفيق بين المبدئين المتناقضين اللذين يتألف منهما المجتمع الإنساني، والمتناوبين عليه الغلبة: النظام، والحرية، فالمجتمع الصغير لا يأمن على نفسه من العدوان، والمجتمع الكبير يصبح كمكوّن سلطة استبدادياً مهيمنا. وكانت الأمنية الغالية للفلاسفة أن تتكون بلاد اليونان من دول - مدن مستقلة ذات سيادة تتعاون كلها داخل نظام رياضي فيثاغوري مؤتلف ومنسجم. وحسب المفهوم الأرُسطي عن الدولة، إن من خصائص هذا النوع من النظم السياسية إسهامه في نموّ شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة بتمكينه مواطني المدينة الأحرار من الاجتماع في الساحة العمومية، والمشاركة في مناقشة القضايا المطروحة، واتخاذ القرارات وتشريع القوانين، وذلك لصغر حجم دولة المدينة من جهة، وقلة كثافتها السكانيّة. باشتراط أن لايزيد عدد مواطنيها على عشرة آلاف لكي لاتعجز عن إدارة شئونها. ولهذا الغرض أُطلق على هذا النمط الإداري للسياسة لفظ " پوليس Polis " المدينة ـ الدولة ليكون له تعريفا جامعاً مانعاً.

تجاوز هذا النمط من التنظيم السياسي المدينة ـ الدولة "پوليس Polis " حدود اليونان لتتسمّى به مُدن فينيقية على الساحل الغربي الليبي فقط هي بمثابة واحات باقية آثارها إلى اليوم كـ لبتس ماغنا "لُبدة" وسوبراتس "صبراتة" لتختفي المعالم الموّحدة في مدينة أثرية بـ "أويا" ليبقى الاسم الجامع للمدن الثلاث "Tripolis طرابلس" إلى اليوم ملتصقاً بها.

شاءت الصدف أن أقرأ إعلانا عام 2009 في مدونة تاولت الأمازيغية عن مؤتمر ينظمه مركز الدراسات المغاربية في مملكة المغرب عن العرب والأمازيغ.. كنت في حالة يأس تام من وضعي في ألمانيا، كما كان يبهظني أيضا حال طرابلس مدينتي وأنا أصيلها بالولادة والنشأة أن تمتهنها رعونات أوتوقراطية البداوة والريفية ممثلة في الدكتاتور الذي يحكم ليبيا من خيمة منصوبة في معسكر باب العزيزية تعينه عصبته ومرتزقته الذين ينهبونها ويهينونها. فخطر في بالي أن أكتب بحثاً في الدفاع عن الهوية وأعني هوّيتها يتيح لي المشاركة به في المؤتمر المزعوم، ويكون لي منفذاً للسفر للمغرب وبحثاً بعيداَ عن التاريخ والتسيّس فاخترت محاورة دفاع صبراتة لأبوليوس نصه المغمور الذي حجبه نصه الروائي المشهور بعنوانه الأدّق "الاستحمار الذهبي".

لم تكن ترجمات علي فهمي خشيم عن الإنجليزية للنصين التي صدرت في السبعينات بطبعة فاخرة في ليبيا تحت يدي، فكلمت أسرتي في طرابلس أن يرسلوها لي. ولكني وجدت عبر قوقل ترجمة تونسية للمرافعة عن اللاتينية للمختص في الكلاسيكيات اللاتينية عمار الجلاصي. فبدأت وقد أعانتني المكتبة الألمانية الغنية بجامعة بون البحث. بعد الإنجاز اكتشفت أن الليبيين مشاركون داعمين باسم مؤتمر الشعب العام ومركز الكتاب الأخضر. فبحثت عن موقع المركز على الشبكة فظهر لي تنظيمه الإداري فأرسلت البحث إلى مدير الشئون الإدارية وهو شخص تعرفت عليه عام 1991 ليساعدني في تسهيل إجراء إيفادي إلى ألمانيا بأمانة التعليم بسرت. ولكن المؤتمر لم ينعقد يبدو أنه جاءت إشارة المنع من دكتاتور ليبيا المُسقط عام 2011 الذي كان ربما مازالت وقتها تستبد به الكراهيات العروبية للنبش في هوّية ليبية أصيلة. ولكن البحث في آبوليوس شاقني فعشت معه سنة كاملة في إعادة قراءة أطلعت فيها على كثير من الأبحاث الألمانية من زاوية فلسفية صوّرتها وترحمت مايفيدني منها على هوامش النسخ. وفي عودتي المتعوسة إلى طرابلس 2012 أخذتها معي لتلقى مصير الضياع الذي حلّ بكتاباتي وأبحاثي ودروسي الجامعية المخطوطة وبالطبيعة كُتبي التي كسبتها بشقاء العمر وشظفه.

الذي يثيرني في الدراسات الغربية الحديثة (والألمانية خصوصاً) للموضوعات العتيقة في الآداب اليونانية واللاتينية.. هو: كيف يبني الباحث المدّقق موضوعة بحثه في النص من تفاصيل غير لافتة لقارئ النص الأصلي، تشكل أساساً آركولوجيا بالمعني المعرفي الذي أسس له ميشيل فوكو تبنى عليه عناصر محاججة تدفع في مقالي قواصم نفي جدارة العاصمة عن طرابلس من الأطراف غير الجديرة جغرافيا وإناسيا أن تكون نِداً ينافسها ويسعي دائبا لقصمها وتفريغها من المضمون المدني الذي منحه التاريخ شرفها والذي فشل المنافس تاريخياً رغم سعيه الذي أعانته فيه الصدف العشوائية أن يكتسبه دونها.

الترجمة التي أنجزها الكاتب عمر أبو القاسم الككلي للأبحاث الشائقة لـ كارلوس نورينا عن مُرافعة أبوليوس المشهورة بـ "دفاع صبراتة" يمكننا وصفها تليببا مُدققاً في آركولوجيا التمدّن الحضري والإناسي لأويا طرابلس الحالية التي جمعت في إهابها المجتمعي الاسم الثلاثي الموّحد للمدينة ـ الدولة بالمفهوم السياسي الذي فسرّناه آنفاً. فتكون الحضرية هي الميكانيزم الذي يصير مع توالي الزمن المُضاد الحيوي الذي تُدافع به المدينة ـ الدولة ونعني بها طرابلس عن نفسها إزاء القواصم التي تحلّ بها من تخومهاالمحيطة بها التي تعترف بها مركزاً لها وأيضاً تبتزّها وتغالبها بل تمتهنها، والأنكى من الرزايا المعنوية المتمثلة في الفيدرالية الانفصالية غير المُبرّرة من أقاصيها الشرقية التي تستبد بها دواعي الحسد التدميري المعنوي والمادي للقضاء عليها.

دراستي الممهورة بعنوان "الأمازيغ والعرب.. البحث في هوّية مغايرة" إزاء هوية رومانية محتلّة موضعتها في المقارنة بين دفاع صبراتة الفلسفي لأبوليوس الأوييي والمرافعة القانونية في الدوذ عن المسيحية الشمال ـ أفريقية لترتوليانوس القرطاجني. في القسم المتعلّق بأبوليوس اصطففت فلسفيا في جهة الفيلسوف والخطيب البلاغي، إزاء مخاصميه الأوييين ابن خطيبته الأصغر يدفعه صهره و أعمامه الذين ألصقوا بأبوليوس تهمة أساسية هي تضليل الأرملة بودنتيللا بالزواج منها للاستحواذ على ميراثها وممتلكاتها. وأخرى فرعية عقوبتها الموت في القانون الروماني وهي تهمة تعاطي السحر الأسود بغرض التضليل. إزاء هذا الجانب الكيدي يكشف نص دفاع أبوليوس، الوجه الثقافي التحضري الذي ساد مجتمعية أويا طرابلس في 158. ابن تتلمذ على قدوته في أثينا يقترح الفيلسوف زوجاُ لأمّه المثقفة التي تتقن كتابة الرسائل باللغة اليونانية، وسيّدة مجتمع تنحاز إلى قلبها وتخاصم ابنها الثاني وأعوانه وتتزوج الفيلسوف وتعيش معه بقية عمرها في قرطاجنة، وخصوم أظهروا في دعواهم القضائية أنهم مجموعة مصالح، بلوروا وضعاً طبقيا لمدينتهم ـ الدولة، وفيلسوف أظهر براعته الفكرية والبلاغية التي أسفرت عن اندماجه الثقافي في المجتمع الأويي الطرابلسي الذي منحه وظيفة الخطيب والمحامي والانتماء الحضاري الروماني الذي أبرزه كاتباً لامعاً في الثقافة اللاتينية. يبقى الذي شكل ميزة أويا ويشكل حتى اليوم طرابلس مدينة ـ دولة خضوع الجميع للقانون.