Atwasat

المصالحة الوطنية - خارطة طريق

علي المجبري الخميس 21 فبراير 2019, 06:17 مساء
علي المجبري

حاولت كثيرًا أن أكتب مقالة حول ( المصالحة الوطنية ) غير أنني كنت في كل مرة أشعر بالإخفاق والعجز حتى أدركت في النهاية أن هذا الموضوع لا يمكن أن يجيء إلا في إضاءات !.

.. لقد أدركتُ أن المصالحة الوطنية هي موضوعٌ أكبر من المقالات ، وأنها تحتاج إلى شعب كبير ، ومنتصر كله ، لتحقيقها !! ... وهذه الخارطة تنبني على الأسس والمبادئ والمفاهيم التالية :


1 ـ أساس المصالحة الوطنية:
تقوم لجنة المصالحة الوطنية على ثقافة المصالحة وليس على ثقافة الإدانة .. ؛ فيعتبر كل المواطنين المتضررين هم ضحايا حرب القذافي على شعبه.

وتسعى المصالحة الوطنية إلى المساواة بين الليبيين ، وتحقيق العدالة للضحايا ، وحمايتهم ، وصون كرامتهم ، وجبر خواطرهم ، وتعويضهم ماديًا ومعنويًا .. ؛ فالمصالحة الوطنية ، شأنها شأن العدالة الانتقالية، لا بد أن تهدف إلى تعزيز هذه الحقوق كمقدمة لإعادة البناء الاجتماعي .

وهي لا تنتج أثرها الفاعل إلا بعد إعادة بناء مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية .


2 ـ مبادئ وأدبيات المصالحة:
على اللجنة التأكيد على وحدة التراب الليبي ، وانتماء كل المناطق لثورة 17 فبراير المجيدة . والتأكيد على أن المقاتلين من الطرفين لا تنالهم المساءلة إلا من ارتكب منهم تصرفات إجرامية تخرج عن نطاق التصرفات الاعتيادية للمحاربين (كأعمال التعذيب والاغتصاب والتمثيل بجثث القتلى ) .

وعلى اللجنة أن تعمل على تعزيز قضايا حقوق الإنسان باعتباره مطلبًا لجميع الليبيين ؛ ما يستتبع إلغاء كافة القوانين الاستثنائية أيًا كان مصدرها ومهما كان سببُ إنشائها.

.. فأساس وجود لجنة المصالحة هو تطبيق ( العدالة التصالحية ) التي تهدف إلى إصلاح الضرر علي المجني عليه .


3 ـ حقوق المتهمين والضحايا :
يحق لكل ليبي ، من الموجودين بالخارج ، أن يعود إلى الوطن .. ؛ فتضمن الدولة سلامته وحريته وتضمن له محاكمة عادلة ؛ فلا حبسَ احتياطياً ولا عقوبة إلا بصدور حكم قضائي نهائي في حقه بالشكل المنصوص عليه في القوانين الليبية . ولا يحق للجنة المصالحة أن تحيل إلى القضاء أيَّ متهم ما لم يتم تفعيل القضاء والمؤسسة العدلية بصفة عامة .

وتقتصر محاكمة الليبيين على من ثبت تورطه في جرائم القتل والاغتصاب وانتهاك الأعراض والتعذيب والتمثيل بالقتلى وإذلال الشعب وأعمال السطو والسرقة الواقعة على الشعب أوعلى الأموال العامة ، فلا يُحاكم أي شخص بسبب عقيدته السياسية أوالفكرية ، كما لا يقدَّم أي متهم إلى محكمة خاصة أو استثنائية .

ويُحظر التشهير بأي شخص أو نشر صحيفة اتهامه أو نشر ملخص لها قبل صدور حكم قضائي نهائي بالإدانة . كما يُحظر السخرية من أي شخص أوإلصاق أي لقب به يتضمن عارًا أوسخرية أو يؤذي أسرته أو يحرجها .

ويحق لكل الليبيين الموجودين بالخارج ، الحصول على كافة الخدمات القنصلية من سفارات البلاد وقنصلياتها المختلفة . كما تتعهد الدولة بتمكين الليبيين المقيمين في الخارج ـ أيًا كان انتماؤهم ـ من المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات التي تجريها الدولة وفق الضوابط العامة المقررة .

وعلى الدولة تأمين عودة زوجات وأبناء الليبيين الفارين ، وتشجيعهم للرجوع إلى الوطن ، وحمايتهم ، وتمكينهم من بيوتهم ، مثلما تلتزم بتسهيل عودة المهجّرين إلى مناطقهم وحمايتهم ، بما في ذلك الذين صدرت في حقهم أحكام قضائية إذا أُطلق سراحُه بانقضاء مدة محكوميته .

وتتعهد الدولة بإرجاع ملكيات المطلوبين الذين يعودون بإرادتهم إلى البلاد للمثول أمام القضاء ، ولا يجردون منها إلا بصدور حكم قضائي نهائي يقرر أن هذا المال مسلوب من الليبيين أومن خزانة الدولة أوتم تحصيله بدون وجه حق.
.. وتعتبر عطايا القذافي وأبنائه للمسؤولين وعوائلهم غيرَ مشروعة باعتبارهم لا يملكون المال الذي يهدونه أويتبرعون به أو يؤلفون به قلوب الآخرين ( معارضين أو مؤيدين ) .

ويكون أساس عمل لجنة المصالحة هو عدم التوسع في قائمة الاتهام حيث يقتصر التجريم على الفئات التي قامت بأعمال القتل والاغتصاب وانتهاك الأعراض والتعذيب والتمثيل بالقتلى وجرائم الأموال .


4 ـ تشكيل ومهام لجنة المصالحة :
ـ تشكَّل لجنة المصالحة من أشخاص قانونيين ، وعدد من الشخصيات العامة ، والحكماء ، وشخصيات المجتمع المدني ، ومن علماء الاجتماع ، والإعلاميين ، (من الجنسين)، ومن رجال الدين ، ومن ممثلين لبعض القبائل والمدن التي عانت مباشرةً من الحرب . ويتم تحديد عددهم وشروط اختيارهم ومدة عمل اللجنة ومهامها وصلاحياتها بموجب قانون يصدر عن البرلمان الليبي. ويختار البرلمان جميع أعضاء لجنة المصالحة .

وتنبثق عن لجنة المصالحة ثلاث لجان فرعية هي :

**ـ لجنة انتهاكات حقوق الإنسان : ( للنظر في تصريحات الضحايا والشهود وتدوين الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان ) .

**ـ لجنة العفو : ( تتلقّى وتنظر في طلبات العفو ) .

**ـ لجنة جبر الضرر وإعادة الإدماج : (تعوّض المتضررين من الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان وتضع توصيات برنامج الإصلاح وتسعى إلى إيجاد التوازن بين متطلبات العدل وضرورة المصالحة) .

ويناط بلجنة المصالحة تشكيل دوائر أومكاتب تتولى مهام: الاستدعاء ، والاستقبال، وتقصّي الحقائق، والتحقيق ، والإحالة للقضاء، والمصالحة الفردية والجمعية، والتسوية، والعفو ، والتعويض ، ولجنة خاصة بالمختفين قسريًا .

كما تهدف لجنة المصالحة إلى محاسبة المجرمين وتعويض المتضررين وإخلاء سبيل الموقوفين أوالمتهمين في جرائم لم يثبت أنهم ارتكبوها أو أن مشاركتهم فيها لم ترقَ إلى مرتبة الجريمة .

ويكون هدف اللجنة ترسيخ فكرتيّ المصالحة الوطنية والعدالة التصالحية ، وإظهار الحقيقة ، وجبر الضرر ، واستعادة المال العام ، وتقديم الجناة إلى العدالة.. ؛ وتلتزم اللجنة برفع تقاريرَ دوريةٍ إلى البرلمان ، تتضمّن بيانًا بأعمالها ومتطلباتها والصعاب التي تعرضها .

وعلى البرلمان تنبيه الحكومة وأجهزتها المدنية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية والقضائية والرقابية بالتعاون الكامل مع اللجنة في أداء مهمتها التي تهم كل الليبيين وتوجّه مستقبلهم .

5 ـ مجال عمل لجنة المصالحة :
ينصبُّ عملُ اللجنة كلُّه على الماضي ؛ فتتناول مرحلة الثورة والحرب وآثارهما وما نتج عنهما من آثار سلبية . وعليها أن تساهم في تعزيز التحول الديمقراطي ، والتوصية بالإصلاحات القانونية ، وتعزيز المصالحة الاجتماعية ، والمساواة في التعامل مع الثكالى والأرامل والأيتام من ضحايا الحرب دون تفريق أوتمييز .

كما ينصبّ عملها على إعادة إعمار المدن المتضررة بسبب الحرب ؛ باعتبار أن كل المدن هي جزء من الدولة . وعلى الدولة أن تخصص ميزانيات مالية تتناسب مع حجم الأضرار وأعداد الضحايا .

6 ـ التهيئة للمصالحة :
تبُنَى المصالحة الوطنية على إرادة الدولة وليست على إرادة المدن أو المناطق أو الأفراد . ولا تتحقق المصالحة إلا ببناء جيش الدولة وأمنها وقضائها . ولا تنجح في مهمتها إلا بتضييق نطاق الإدانات وتوسيع نطاق الحريات العامة .

ويجب حظر ممارسات التحريض الإعلامي ضد فئة معينة من الشعب أومنطقة معينة أواستغلال المنابر الدينية لتأليب الناس على منطقة أو فئة من الناس مهما كان السبب .

وعلى لجنة المصالحة توجيه الإعلام لترسيخ وإثراء فكرة المصالحة، مع بث برامج للأطفال لا تجعلهم يتربوا على ذاكرة القتل والحصار وأفكار الانتقام.

ولترسيخ فكرة المصالحة وتقبّلها على اللجنة أن تبدأ بنظر القضايا الأبسط التي تكون فيها فرص الحكم بالبراءة أكبر؛ حتى تزرع الثقة في لجنة المصالحة وتشجّع المتورطين على تقديم أنفسهم طواعية .

كما عليها أن تشجعَ المتضررين وأفرادَ الشعب للإدلاء بشهاداتهم . وتوفّرَ منابرَ للضحايا تشجع على النقاش العام من أجل إثبات الحقيقة.

7 ـ مقومات نجاح لجنة المصالحة:
ولتنجح لجنة المصالحة في عملها عليها تعويض جميع المتضررين من النظام السابق في حيواتهم أو حرياتهم أو أموالهم. وإظهار الحقيقة كاملة ، وجبر الضرر الذي أصاب الليبيين دون تمييز، والعمل على منع انتهاك حقوق الإنسان.

وعليها استرداد أموال الشعب من المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين الذين لم يتورطوا في قتل الشعب ، والتي استولوا عليها أوتحصلوا عليها بدون وجه حق ، .. وعلى هؤلاء المسؤولين تقديم اعتذار صريح للشعب.

ويجب على اللجنة أن تقوم بإطلاق سراح المحبوسين احتياطيا أوالمعتقلين لمجرد الاشتباه بهم أوالموقوفين لأسباب واهية والمختفين قسريا . والعفو العام لكل من اقتصر دوره على المشاركة في الحرب ـ مرغَماً ـ ولم يرتكب خلالها أي فعل يجرمه القانون المحلي أواتفاقية جنيف والقانون الدولي الإنساني ؛ مثل أعمال السطو أوالاغتصاب أوالتعذيب أو إذلال المواطنين أوالتمثيل بجثث القتلى .. فـتضييقَ مساحة التجريم هو عصا اللجنةِ السحريةُ لإنجاح برنامج المصالحة .

وعلى اللجنة أن تساهم في إصلاح مؤسسات الدولة المختلفة ؛ فتعيد هيكلة المؤسسات التي شاركت أوتواطأت في أعمال العنف أوالانتهاك ، ومحاسبة رجال الأمن وإدارات السجون على أية انتهاكات أو سوء معاملة من طرفي القتال ، مع منع مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان من الاستمرار في شغل وظائفهم في مؤسسات الدولة العامة . وعدم السماح لمرتكبي الانتهاكات بالإفلات من العقاب .

وعليها مساعدة وتعويض المهجّرين قسرًا من أراضيهم ، وتمكينهم من العودة إليها ، وتذليل العقبات التي تحول دون ذلك . مع تجريم حمل السلاح لغير المخولين رسميًا بحمله وفرض عقوبات رادعة للمخالفين .

كما عليها الأمر بإقامة مراسم دفن ملائمة للضحايا القتلى ، والبحث عن حالات الاختفاء القسري .

8 ـ الإفراج والإحالات إلى القضاء :
تتولى لجنة المصالحة تقديم الملفات التي تحوي إدانة إلى القضاء ، وتتولى مباشرة الدعاوَى باعتبار أن إقامةَ العدالة الجنائية هي أهمّ ركائز التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان .. ؛ فعلى اللجنة محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان وإحالة الجناة إلى القضاء .

ويتم تخفيف عقوبة كل من يسلم نفسه ويتعاون مع لجنة المصالحة في إجلاء الحقيقة وتقديم بيانات تفيد اللجنة في أداء عملها .

ويحق لكل من اقتصر جرمه على استيلائه على مال عام وأراد ردّه إلى الشعب أن يُجري تسويةً مالية ؛ فتخلي اللجنةُ سبيلُه فورًا ، وتسقط بموجبها المساءلةُ الجنائية .

9 ـ إحياء الذكرى والنصب التذكارية :
يقتصر إحياء الذكرى بإقامة النصب التذكارية للتذكير بالثورة وبالحرب حتى يكون رمزًا للأجيال القادمة ويساهم في الحيلولة دون خروج دكتاتور جديد .

ويمكن أن تكون النصب التذكارية أعمالًا فنية كالنحت والنقش والرسم والحدائق التذكارية ، بشرط ألا تمس مدينة بعينها أو قبيلة بعينها أو أشخاصًا معيّنين أدانهم الشعب .

وتعتبر النصب التذكارية جبرًا رمزيًا لجميع المتضررين ، دون استثناء ، ويتوقف تأثيرها على إحياء الذكرى في نفوس الذين يأتون لزيارتها .

10 ـ العفو :
على اللجنة أن تتوسع في مفهوم البراءة ؛ فتضع خططها للإفراج عن السجناء الذين اقتصرت تهمتهم على محاربة الشعب استجابة لأوامر وتهديدات قادتهم العسكريين . ويكون أساس الحصول على العفو الفردي هو الإدلاء باعترافات كاملة تتعلق بالانتهاكات التي كان شاهدًا عليها .

ويتحصل على العفو ـ من غير مرتكبي الجرائم والانتهاكات ـ كل من اعترف بأعمال القتل الجماعي ، أو قدّم بيانات عن المختطَفين ، أوكشف عن مقابر جماعية ، أوعن أماكن دفن شهداء أبي سليم وكل الشهداء الذين قضوا على يد القذافي وأعوانه .. ؛ فتضييق نطاق المساءلة ، والعفو الفردي والعام ، وإطلاق سراح المحبوسين احتياطيًا والمختفين قسريًا، وتحقيق العدالة التصالحية، هو جزء من الثورة .. وجزء من البرنامج الديمقراطي للدولة .

هامش :
كتبت هذه الورقة بعد دراسة الكثير من وثائق المصالحات في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا وفي وطننا العربي ، وما لمسته من نجاحات باهرة حققتها لجان المصالحة في جميع البلدان التي عانت من جرائم المستبدين ومن ويلات الحروب الأهلية .