Atwasat

ذلك الخميس.. تلك الليلة

سالم الكبتي الأربعاء 20 فبراير 2019, 12:47 مساء
سالم الكبتي

بارشي وباركي والمدينة الحمراء وبرقه وأم عزيه. كلها اْسماء للمرج في السهل الخصيب في قمة الجبل. تعددت الأسماء منذ أيام الأغارقه وتتابعت إلى مابعد الفتح الإسلامي.

المرج هناك. فسيح مترامي الأطراف وسط الخضرة والمياه. الفواكه والبطوم والشماري وطيور الحجل ورائحة الأرض بعد المطر. تاريخ يمتد ويتواصل. مدينة تتحرك وتزدهر بلا توقف. أدركت كل الأقوام والغزاة والفاتحين أهمية المرج. الموقع والمكان. نطع المرج. الشليوني. العويليه. تعبر خاطرك أجيال. رجال ورواد. نسيج اجتماعى صنع وجودا رائعا. وجوه كانت في موقع الضوء تغمر الظلال في أعوام يتردد صداها من البعيد.

أجيال اختلفت وتنوعت والتقت هناك في المرج. وانطلق بعضها إلى كل أرجاء ليبيا دون فرق. شيوخ وشباب كانوا في المرج أو استقروا به في جزء من حياتهم وظل قطعة من ذكرياتهم عبر أيام مضت ولن تعود: طاهر العسبلي ومراجع الرخ ورمضان الطيار وعلي بوسنينه وعبدربه الغناى وإبراهيم الأسطى عمر ويوسف الدلنسي وحسن صالح ومحمد المطماطي ومحمد عبدالكريم الوافي وأنور الهوني وآدم الحواز ويوسف الزياني وعبدالقادر العيش ومحمد بالحمد وسعد الترهوني وعبدالله حيدر وعبدالحميد الطيار وعبدالله الغريانى وعلي مادي وعبدالسلام النوال وبشير جودة ويوسف ذياب... وغيرهم. المرج تاريخ يمشي منذ القدم ويتحرك في كل الاتجاهات. يدور مثل الفراشات الملونة ويحترق بالنور. الكل مر من هنا. الكل التقى هنا. والشواهد والدلالات تومض بالمعاني العميقة. الآثار والنقود القديمة وحواف الجبل وبطولات الرجال أثناء المقاومة وأولاد الأعمى والسوق القديم والساعة في بدايته والحامية العسكرية ومحطة القطار والقصص التي تحكي بلا انقطاع. المرج شمس في النهار وقمر في الليل.

والمرج كله تلك الليلة. ذلك اليوم الذى كان الخميس 27 رمضان 21 فبراير 1963يغمره صقيع وشتاء. اقترب العيد من الأعتاب وقارب اْن يلامس ببهجته البيوت واختفت الشمس خلف التلال فيما توهجت آلاف التنانير بالخبز الساخن وتضوعت روائح الشربة والشاي والقهوة من الأزقة والشوارع وانتشر الهدوء والسكينة عبر كل الأبعاد. لحظة الإفطار بعد صيام اليوم انفجر الزلزال واهتزت الأرض تحت الأقدام ومادت ثم ظلام دامس وأمطار.

ضرب الزلزال المدينة ومن قبل في اْعوام ماضيات حدثت زلازل عدة خلال الفترتين التركية والعثمانية وتلك مشيئة الله. تلك الليلة شعرت بقية المناطق بذلك الزلزال: بنغازي وثمة خوف اعترى الكثير من النفوس. وقرى الجبل المجاورة. في بطه تصدعت بنيان المدرسة الداخلية ونقل طلبتها لاحقا إلى مدرستي سوسه والأبيار وهناك خط واحد من مباني الاستيطان الإيطالى في سيدي ارحومه تداعى وانهار تماما. كان كما تردد لاحقا حسب الدراسات العلمية مركز الزلزال في ذلك الأخدود.

العيد على الأبواب لكن الحزن غطى ليبيا كلها وطغى على بهجة العيد القريب. كانت الحصيلة تلك الليلة من الوفيات (330) ومن الإصابات (150) وكانت فى الأطفال (117) وتهدم (1310) منازل و(636) دكانا و(258) من التركيبات الخشبية أسهم بناء الطين الذى يغلب على المدينة فى مضاعفة تلك الإصابات. ذلك ما حددته الإحصاءات والمصادر الرسمية في حينها.

على الدوام، الكوارث تقرب الناس جميعا. تجعلهم يشعرون بالدفء والتعاطف. تتالت النجدات وصل الجيش الليبي والقوات الإنجليزية في العدم وأفراد الكشاف من مناطق بعيدة من أقصى الجنوب والغرب والتقوا في المرج. تطوع الكثير من بنغازي في عمليات الإنقاذ كان من بينهم خليفة الفاخري الذي كتب قصة (وعلى الأرض السلام) استوحاها من تجربة الزلزال في تلك الليلة. وأرسل الصادق النيهوم الذي كان طالبا في ألمانيا برسالة عاجلة إلى أسرته ليطمئن على سكان المرج. كانت عمته تقيم هناك. وأوقفت الإذاعة برامجها العادية وشاركت المرج أحزانه وانطلق الشعر معزيا ومواسيا من كل الشعراء. قدم طلبة كلية العلوم من طرابلس للغرض نفسه تبرع الملك وولي العهد والحكومة والشعب وكل دول العالم وتشكلت اللجان الخيرية والإنسانية وبدأت الخدمات العاجلة وعوضت المدارس بأخرى مؤقتة لكي لاتتوقف الدراسة وجهزت أماكن ومخيمات للسكن في الشليوني كما شرعت الدولة في التخطيط والإعداد للمرحلة القادمة وفقا لخبرة يابانية فاختارت موقعا جديدا للمدينة الحديثة يبعد عن شقيقتها السابقة (المرج القديم) بحوالي أربعة كيلو مترات حتى يكون أيضا فى مناْى من وادي الغريق وشكلت مؤسسة خاصة بإعادة بناء المدينة.

ومع ذلك كله. مع الفواجع والحزن. غمر الناس الدفء الإنساني والحنان ذلك أن الكوارث والصدمات بمختلف أنواعها تقربهم وتزرع بينهم خيوط الألفة والود واللمسات الحانية التي تظل الحياة من دونها مقفرة وموحشة إلى أبعد الحدود.هل تحتاج الناس إلى ذلك.. إلى كوارث وفواجع على الدوام لكي تقترب وتتعاطف وينالها الدفء والحنان المطلوبين؟

ثم نهضت المدينة الحمراء من جديد تبتسم للشمس بعد الكارثة وتنظر للقمر في ليالي الربيع عبر سهول الأمل الخصيبة.