Atwasat

نظرات في الثورة

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 19 فبراير 2019, 12:36 مساء
عبد الكافي المغربي

تستعرض أمم شتى في هذه الآونة أحداثا تعكس الاضطراب الأعظم في العالم العربي منذ نهاية الكولونيالية، والذي ألهمه استياء ظل يغذيه تنفج الطغاة وأنانية المحظيين عند السلطة من إعلاميين ومثقفين. ولا تزال الصحافة العربية المستقلة تفحص ظاهرة الثورة في المحيط العربي من كل وجوهها، كلما أقبل تاريخ يذكر بتلك الزلزلة التي قدر أن تشيع ما هو أقرب إلى النكاية الغبية والاعتقاد بالمؤامرة بين الجماهير، والكآبة والهزيمة في صفوف المثقفين والمخلصين للمطالب الثورية. وإذا كانت الثورة الفرنسية، والاضطرابات التي شهدتها أوروبا على امتداد القرن التاسع عشر تقدم النموذج الأمثل لدراسة تاريخ النضال الإنساني ونتائجه في الجامعات الأجل، فأولى بها أن تلفت وعلى نحو خاص كتّابنا أذ يعدون مقالات للمحرر.

لقد فات على الرجل العادي أن يبصر في الثورات العربية بذور بوارها منذ إشراقة شمس أول يوم من أيام الغضب في أكثر من بلد. كان الشارع العربي يستفتي المؤسسة الدينية في شرعية خروجه، وبوعي منه كان يستلهم الخرافة على الملأ، ويؤدي الطقوس في ساحات الثورة وتغلب الشعارات غير العلمانية على ما عداها في الاحتجاجات كما في الحروب ضد القوات الحكومية فيما بعد. كذلك فقد كانت أيام التعبئة والحشد تحمل مدلولات عَقَدية، ما يشي بأن ثورات الربيع العربي لم تكن ثورات سياسية بالمرة. ذلك في الواقع ما كان يبدر لكل مواطن عربي في يومها: "إن ولي الأمر غير صالح، بل هو مجترئ على العقيدة أثيم، لقد سُلِطنا عليه وجمع الله إلى صفنا الأمم لينْزل به مقته".

وإذا لم يكفِ ذلك فإن ما يجعل جدلنا متينا وغير قابل للنقض ثورة الأكثرية الدينية غير الممَكَّنة سياسيا إنما المزدهرة اقتصاديا في البحرين، دون غيرها من أمم الجزيرة التي تشارك حاكمها طائفيته، وكان يراد منها أيضا أن تنقلب على طغاتها إذا كانت مطالب الشعب البحريني عملية وقابلة للنسخ في سائر البلاد. إن هزيمة شخصيات بارزة على المستوى الدولي في الانتخابات الرئاسية النزيهة في مصر سنة 2012 تشهد على ضعف البرجوازية المصرية وضآلة تأثير النخبة المثقفة والأكاديميين في صناعة النتيجة المأمولة.

وأيضاً، لم يكن تحالف القوى الوطنية ليظفر بالأغلبية في المؤتمر الوطني الليبي في انتخابات 2012 النزيهة لو امتنع عن الترويج لمصطلح لا علاقة له بالاصطفاف السياسي، والتأكيد على وسطية الحزب في الوقت الذي لم نبلغ فيه من النضج السياسي ما يجعل لنا أطيافا سياسية تمتد يمينا ويسارا، ويقع الوسط السياسي بين قطبين متطرفين. إن وسطية محمود جبريل وعلي الترهوني هي وسطية "دينية"، وظل التسامح وكتم الطبيعة "العلمانية" للأحزاب السياسية المقابِلة للإسلام السياسي يمنح الجماعات الدينية المسلحة تغطية، حتى تغول الإرهاب وكان علي زيدان رجل التحالف في شغل عن دعم درنة وبنغازي عندما كانتا تئِنّان من مضاء السكين.

يلمح Robert Wright في كتابه الزخِم "The moral animal: the science of evolutionary psychology" إن الحيوانات الاجتماعية المعقدة (Sophisticated Social Animals) تقوم بثورات ذات طابع سياسي بقدر أكبر بكثير من ثورات أقربائها بني الإنسان إذا أخذنا في العد منذ باكورة تاريخنا. يندر أن تسود الملكة الأم طويلا أو أن تورث مكانتها لابنتها في المجتمعات الاستثنائية للضباع المنقطة، وهي أكثر الوحوش وحشية إذا عددنا الإنسان متقدما عليها في القسوة والشره، ذلك أنه سرعان ما تتبرم الحيوانات العنيفة من طغيان وجشع ولية أمرها، وتأتلف كافة للقضاء على الملكة الأم القضاء المبرم، لتتربع مكانها في الحظوة والصدارة ملكة أشد منها بأسا، وهلم إلى نهاية تاريخ النوع. والأمر لا يختلف كثيرا في شعوب النمل. وإن كنا نعجب بإباء الضباع، وهي ولعمري نقطة لها على النوع البشري الذي لا يستيقظ إلا بعد مضي أحقاب من السبات والسكون، فإن هذه الثورات لم تجعل الضبع الفرد أكثر سعادة.

إن ثورات الحيوانات الاجتماعية هي من فئة الثورات الفوضوية التي تضطرم دون أن تكون لها مطالب عملية، أو الثورات التي لا تسري فيها روح العصر، أو التي لا تسبقها حركة غير محافظة تكون بمثابة العَرّاب لها، وكان على هذه الثورات أن تذوي وتفنى إذا برد هياج العاطفة، المحرك الرئيس لأي قرار ثوري من هذا القبيل. أما الثورات التي جاءت بكهنة جدد إلى السلطة، بعد ثورة المسيحية وحروب الإسلام على سبيل التمثيل، أو الثورات التي تساير روح العصر وتتمخض عن واقع مغاير إلى حد ما كالإصلاح الديني والثورة الفرنسية فإنها غالبا ما تمر بمرحلة من الترخص حتى تستوعب في المنظومة الرسمية.

إن الثورة -إلى حد كبير- حركة غير عقلانية، يجادل Carl Becker صاحب كتاب "The heavenly city of the 18th-century philosophers" إن حركة التنوير التي سبقت الثورة الفرنسية هي خرافة كانت تسعى إلى أن تحل محل خرافة العصور الوسطى، فالإيمان برب الطبيعة أو باتساق القانون الطبيعي، وهو الدين العلماني الذي نقَضه الكتّاب العقلانيون ونظريات داروين وأينشتاين في القرنين الأخيرين، نعني تلك الاكتشافات التي أكدت أن الطبيعة قوة غير رحيمة وغير شريرة، وأن الصدفة والفوضى متبينتان للفيزيقا الحديثة دون مزاعم النظام والاتساق المنحولة لسقراط. وتماما كالمسيحية من قبل، كان يجب على دين الإنسانية الأول أن يتنازل للسلطة الزمنية عن بعض أهم ما فيه من مُثُل عليا حتى تنتخب دينا للأغلبية الحاكمة.

إن من بلايا الثورات أنها لا تسلك مسلكا عقليا لاشتمالها على عناصر شتى من مختلف الأطياف وبتركيز شديد، ولئن كانت انقلابا لطائفة معينة لحق أن نحدد لها إرادة أو وجهة أو نتبين فيها عملا مثمرا. ويدعم Carl Becker هذا الطرح بنقله عن Gabriel Monod روايته لحديثه مع ابنة عامل غير مثقف حارب مع اليعاقبة وعاش حتى شهد إخفاقات ثورات 1848 وهو يقتله الأسى على خيانة البرجوازية وغدر الأنظمة الأوروبية بمطالب الحرية والعدالة والمساواة. ومما نأسف له أن ابنته هي الأخرى لم تشهد على ما سيأتي مصداقا لكلام لينين عندما تحدث عن قفز حكومة البروليتاريا إلى السلطة إذا ضغطت الحرب.

ليس يسعنا أن نؤكد ما إذا كنا نمر بمرحلة بين الثورة والديمقراطية، والتي اتسمت في فرنسا بحكم أكثر من طاغية يجمع بينهم ميلهم إلى المناورة منه إلى المواجهة، أو أن البلاد العربية ستتخذ في المستقبل المنظور توجها أكثر تمهلا واعتدالا لإحداث التغيير، كما حدث في بلجيكا والمملكة المتحدة. ولكن يظل الجانب التشاؤمي سائدا، وإلى اليوم أحتج على "حوسبة" الإنسانيات، فلربما كان وضع تبعية الحكومات العربية للقوى الكبرى يعترض طموحات الكاتب العربي، ولعل رغبة الناس عن التضحية بما أتلفه الزمن، -وهو دون غيره الخليق بأن يجعل الرجل المسالم الصالح وحشا لا يرحم- والتدين عوضا عن ذلك بالإنسانوية الأكثر ملاءمة لروح العصر ستجهض أكثر من تحرك ثوري مستقبلي وستغرق الأرض العربية بسيول من الدماء في حين تتربص حكومات استبدادية عنيدة وماكرة.

وكذلك يدخر الدهر الصدف الكثيرة، فمن ذا الذي كان يحسب أن الثدييات التي كانت بحجم الفأر وتعيش في ظل العمالقة حكام الأرض، ستتسلط على الكوكب دون غيرها من الأنواع. وقد يريد العرب بأنفسهم شرا، وقد يرغبون في الانقراض، أو أن يزدادوا فقرا وبؤسا في عصر النسباوية الأخلاقية. فلو أن مقتحمي أسوار الكتيبة في 2011 اطلعوا بعين الغيب على الذي آلت إليه بلادنا وثورتها لقابلوا الموت بقلوب وجلة، كما أن مدام رولان لو قد علمت عاقبة الثورة الفرنسية وقبض عسكري مغمور على تقاليد السلطة في بلادها لارتقت درج المقصلة بقدمين أقل ثباتا، ولَما رفعت عينين غير هيابتين للأنثى الماضية الحد!