Atwasat

سنوات النضج الحقيقي

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 فبراير 2019, 12:57 مساء
محمد عقيلة العمامي

مدير واحدة من أكبر شركات الإعلانات في أمريكا، قال إنه يفضل الذهاب إلى مقر عمله، والعودة منه بالحافلة العمومية؛ معللا أنه ينفرد بنفسه يفكر، أثناء ذهابة فيما سيفعله في ذلك اليوم، أما أثناء عودته يفكر فيما ارتكبه من أخطاء!.

والآن، ومن بعد سنوات من قراءتي هذه المعلومة، قررت أن أسلك السلوك نفسه، فأنا في الواقع أذهب إلى عملي الآن بالحافلة؛ أولا لأنها أفضل وسيلة أصل بها مقر عملي، إذ لا يحتاج الأمر إلاّ لتغيير محطة واحدة، ثم إنها أسرع بكثير مما لو لأنني استقللت سيارة أجرة، ناهيك عن توفير مبلغ يصل عشرة أضعاف تكلفة الحافلة وهي قيمة كفيلة بتغطية قيمة الفحص الدوري للسكر وضغط الدم!.

ولكنني لم أقسم مشوار الذهاب إلى ما سأفعله، ولا الإياب عما ارتكبته من أخطاء. المشواران للتفكير في أخطائي فقط! فلم يعد هناك سوى القليل لأفعله، أو بمعني أدق ما يطلب مني تنفيذه!.

لقد انتبهت الآن من بعد مشاويري اليومية إلى أن أخطاء عمري المزري هذا، هي أكثير بكثير مما توقعت! وهي أخطاء كثيرة، و فادحة، ومعقدة، ومركبة؛ ولكنني مازلت بإصرار طفلا أعاند نفسي طوال الطريق، أحيانا أنطق كلمة أو كيلمات من دون رغبة مني، وكثيرا ما انتبهت من بعد مغادرة الحافلة إلى أنني أقول، متوعدا بسبابتي: "هم الغلطانين.. (الّفسس) فيهم!". ثم ألتفت يمينا ويسارا وأحمد الله أنه لا أحد بجواري. الغريب أنني اكتشفت قدرتي الرهيبة على خداع نفسي، إذ إنني أجد دائما أكثر من سبب أقنعها به بأنني لم أكن المخطئ!
وبالتأكيد ليس هناك عاقل واحد يقبل أنه على حق على طول الطريق! ولكنني تمكنت بتواصل الأيام من طرح أي ادعاء أرضا يقرر أنني مخطيء، بضربة "دون كيشوتونية" واحدة.

ظللت أُؤسس دفاعي عن اتهامي بأخطائي بأنه لا أحد أرغمني على فعل شيء قمت به في حياتي. كل ما فعلته كان نتيجة قراري أنا. قد يكون قراري خاطئا ولكنني فعلته مقتنعا. أنا وثقت في هذا أو ذاك وسلمته أموالي، مثلا، فخان الأمانه واستولى عليها. فهذا ليس خطئي وإنما هو المخطيء! كيف له أن يخون الأمانة وهو صديقي؟ أليس هو المخطئ، بالله عليكم؟.

هتفت لثورء ربيعية، فلم تزهر، بل توالت لياليها السود وظلت العنز ترتجف أمام المصارف، و (فحلها) في المعتقل إما متهما أو جلادا! وأسأت إلى رئيس بلادي وطلبت منه أن يرحل، من بعد تعودنا عليه وتعوده علينا، فلم يرحل وفضل أن يثبت للعالم بطريقته أنه على حق، ففقد حياته نتيجة خطأ منه وليس مني!

وأستطيع أن أسرد لكم كما هائلا من أخطائي، وأنا متأكد أنني لم أخطئ بقدر ما أخطأ الآخرون، وأستطيع أن أقارعكم بالحجة! وسترون كم أنا مظلوم!
العجيب، وأنا فى هذه الدوامة قرأت مقالا يقول بالنص:
"من يتقدم في العمر يكتشف سرا يصعب عليه أن يقنع به الآخرين وهو أنه يدرك -على وجه اليقين - أنه ليس كهلا!".
كان المرحوم الدكتور رؤوف بن عامر يأتيني بعدما تقاعد، بمكتبي بشارع مصراته، (داهش) خصوصا أيام الصيف، إذ كان يركن عربته على كورنيش، ويأتي ماشيا، في كامل أناقته الرسمية مرتديا رباط العنق الذي لم يتخل عنه أبدا! ويتهالك أمامي على المقعد، ويشرع في الشكوى من كتفه تارة ومن ركبته تارة أخرى، فأقول له مداعبا: "ثمانون عاما.. وهذه الركب تتحرك بك في (بولونيا)و(وكريت) وبنغازي، بل في عواصم الدنيا كلها .. ثمانون! فماذا تتوقع.." وأشرع في ترديد بيت زهير ابن أبي سلمى عن سأمه من الثمانين حولا، فيقطاعني: "المشكلة يا سي محمد أنني لا أشعر أنني وصلت هذا العمر"!.

وهذه حقيقة لا أحد يشعر أنه وصل عمرا متقدما مالم يقعده المرض. يؤكد علماء النفس والصحة العامة، أن المتقدم في العمر لا يشعر أن بداخله كهلا أو شيخا، بل لا يشعر حتى أنه شاب. إنه ببساطة، النفس التي عرفها منذ سنوات وعيه وعندما تنضج بمعنى أن تجتاز مرحلة المراهقة تظل كما هي، لا علاقة لها بالعمر، أي أنها منفصلة تماما عن تقويم الزمن".

وهناك من العلماء من يرى أن أجمل عقد في حياة الإنسان هو الذي يبدأ من الثمانين إلى التسعين، ففيه تتحرر من نفسك إلى حد كبير وتستطيع الملاحظة وتقييم الأمور بصورة أفضل! إنه النضج الحقيقي، ولكن ما هو النضج؟ يقولون: "أنه الإدراك المتزايد بأنك لست كاملا إلى أقصى حد، أو لست ميئوسا منك بالدرجة التي كنت تظنها.. إنها حالة إقرار السلام بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون".

والخلاصة: لا داعي لجلد الذات عن أخطاء لم تكن أنت سببها.