Atwasat

الثورة تكرهُ الدولة

نورالدين خليفة النمر الأحد 17 فبراير 2019, 11:52 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يباغت التذكار السنوي للثورة الليبية 17 فبراير 2011، بالإحراج ـ إن وُجدوا ! ـ الكُتاب الذين يتوخون التفسير بما يمليه عليهم إكراه الكتابة في مساحات النشر الليبية المُضيّقة والمُقترّ عليها، فطفقوا ربما من التذكار الأوّل عام 2012 ساعين في تحاشى التفكير بجدّية وعمق في التباسات "الثورة" سرداً متابعاً لمستجدّاتها، نجاحاتها وإخفاقاتها وتأملا في مآلات قدرها الذي حفّ بحدثها التاريخي الفارق مُقصّره كحُلم ليلة صيف.

تمكنتُ عام 1980 بعد بحث دؤوب في الأقبية بمبنى ومخزن رقابة المطبوعات في العاصمة طرابلس، التي آلت إدارةً إلى "منشأة النشر والتوزيع" الوحيدة التابعة للدولة، من أن أجمع عدداً من الكتب التي نظرّت للثورة في الفكرانية "الآيديولوجية" البرجوازية: أذكر منها كتاب ريجيس دوبريه "الثورة في الثورة" وكتب "العقل والثورة، والثورة والثورة المضادة، ونحو ثورة جديدة" لهربرت ماركوزة، الذي قاسم زميلته حنا آرندت التي كتبت في الثورة التلمذة عن الوجودي مارتن هيدجر، واستثمار رؤيته الأنطولوجية الفردية في سياق المجتمعيات النقدية البرجوازية، كماوجدتُ في حوزتي من مقتنياتي في الفترة الجامعية ببنغازي عام 1975 كتابا فلت من منع الثورة الثقافيه 1973 مؤلفه الذي لايحضرني إسمه آميركي لاتيني ممن خاضوا حرب الغوار "العصابات" في القارّة عنوانه "الثورة والثورة المضادة في آميركا اللاتينية" أضفته لما أملكه من كتب لـ فرانز فانون كـ : سوسيولوجيا ثورة ولأجل الثورة الإفريقيّة، وكتابه الذي مازال يلمع نجمه في الكتابات الثورية العالمثالثية لمابعد الاستعمار: معذبوا الأرض. وهي كتب نظرّت لتجارب تحريرية في صيغ حرب غوار ثورية ضد الاستعمار وتوابعه المتمثلة في تحالف الكومبرادور، والعسكرتيريا. في تقييم هذه التنظيرات يبرز كتاب "نظريات حديثة حول الثورة والطبقات " لـ جاك ووديس الذي تصدّى لاحقاً لتعيير أو معايرة أطروحات فرانزفانون، وريجيس دوبريه وهربرت ماركوزة.

كشفت السيرة الفكرية للمفكر المارتنيكي فرانز فانون تواصله بالمراسلات مع معاصره الملهم لأول ثورة شعبية إسلامية في التاريخ المفكر الأيراني علي شريعتي. آعادني يوبيل مرور هذا العام 2019 على 40 سنة على زلزال ماسمّي بالثورة الإيرانية خريف عام 1979، الذي تواقت مع بدء استلام وظيفتي في منشأة نشر الكتب والمطبوعات وتوزيعها؛ وهو ما أعادني للاهتمام من جديد بالقراءة في التنظير للثورة في الأدبيات البرجوازية والعالمثالثية التي تستلهم يساريات الفكر البرجوازي، والتي سعت لإبرام صيغة تفهم للظروف المحلية والخلفيات المعتقدية والتاريخية للتيار الديني أو المذهبي المُحافظ الذي برز على التيارات العلمانية واليسارية التي تحالفت معه في الصعود إلى واجهة مشهد التغيير الثوري في إيران وتبعياته المفترضة في بلدان أحرى في العالم الإسلامي. وهكذا طُوّبت الثورة الإيرانية لتُتجاوز خصوصيتها لتكون آخر نموذج للثورات التقليدية الكبرى: الثورة الفرنسية 1789 والثورة الشيوعية فى روسيا 1917 والصين 1949، وهي الثورات التى أسقطت النظام بمعنى السلطة والدولة معاً، لأن كل ما أعقبها من تجارب التغيير أو ماسمّى بعضها بالثورات لم تسقط فيها الدولة، إنما تغير نظام السلطة وأصلحت مؤسسات الدولة كما جرى فى أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية وكثير من البلاد الآسيوية والأفريقية.

انفجار الثورة الشعبية الإيرانية ونجاحها في إسقاط الملكية في إيران فاجأ ليس فقط ساسة الغرب ومستشرقيهم، وبُحاث مراصدهم وكتاب صحافتهم كمراسل اللومند الذي ترك مهمته في طهران معلّلاُ بأن الحدث أكبر من أن يعيه ليكتب عنه، بل إن ارتباك الوعي أصاب حتى المثقفين والمفكرين السياسيين العالمثالثيين والإيرانيين الذين صُدموا بالتداعيات الفوضوية للثورة سنوات 79 .80. 1981: تصفيات معارضين وتفجيرات إرهابية عشوائية طالت أماكن التجمعات السياسية والحزبية وإعدامات بالجملة شملت المئات بتهم تعوزها إجراءات المهنية القانونية ليتبوأ آيات الله وحجج الإسلام وأعضاء الحرس الثوري والطلاب الذين شغلوا صدارة المشهد باحتلالهم للسفارة الأميركية، يدعمهم مشايخ مدينة قّمْ، الذين كسبوا بوسائل العنف رهان إزاحة خصومهم ومنافسيهم وحتى مناصريهم السياسيين الليبراليين، كُليّا من مشهد السلطة. الأسوأ الذي رافق هذه الهيمنة الأحادية السلطوية الفقر الفكري والنظري الذي التبس البداية الثورية الإسلامية ووعودها ولازمها حتى اليوم نقصاً في النظرية الثورية. إذ يزيح "ولاية الفقيه" كتاب آية الله الخميني مكتبة متكاملة وخصبة في سوسيولجيا الإسلام الثوري المُشبع بالروح الليبرالية الذي تُجلبه هذه العناوين الموحية لشريعتي: "دين ضد الدين، والتشيّع العلوي والتشيّع الصفوي، وبناء الذات الثورية، والعودة إلى الذات، وثالوث العرفان والمساواة والحرية،ومسؤولية المثقف وغيرها.

النظام الدكتاتوري الليبي المُسقط بثورة شعبية عام 2011 ، والذي أسمى بالثورة انقلابه العسكري عام 1969أسوة بملهمه الانقلاب المصري 1952، التبس من باريس بحراك الثورة الإيرانية الأخير الذي التفّ حول آية الله الخميني. ليسقط نظام الشاه بمواجهات بينه وبين حشود شعبية في شوارع طهران. المحفزات الظاهرة لرأس النظام الليبي تصفية حساب عداوة قومية موهومة حركها احتلال إيران لجزر عربية تابعة لإمارات الخليج عام 1971. انضافت على الإسترابات التي روّجها الخطاب القومي الناصري في ستينات القرن العشرين بادعائه أن إيران مصطفة في الحلف الإسرائيلي الغربي المضاد لقضية العرب المضيرية : تحرير فلسطين . ولكن المتابع الدقيق لدوافع النظام الكامنة يُدرك أبعاد صفقة التواطؤ التي أبرمها ضمنياً دكتاتور ليبيا المُسقط عام 2011 ، مع آيات الله بأن يسكتوا عن تهمتهم له بإخفاء الزعيم الشيعي اللبناني الإمام موسى الصدر، مقابل دعمه لهم في مواجهتم للنظام البعثي العراقي المضاد لهم بأيديولوجيته القومية إزاء أيديولوجيتهم الإسلامية المتوجهة بالثورة الدائمة.

المُتابع المحيط بمسار لـ 40 عاماً، لسيكولوجيا الأوتوقراطية لرأس النظام الدكتاتوري الليبي التي نزعت إلى الفوضوية، منذ الأيام الأولى للانقلاب على الدولة الملكية الليبية وعرشها الذي حطمه الراعي البدوي بعصاه، ملقياً به يتفهم الخلفيات اللاوعية والواعية للارتباطات البراغماتية التي انتسجت بين قائد ما أسمى انقلابه العسكري ثورة، وبين آيات الله الذين ألبسوا إسلامهم السلفي في نسخته "الإمامية" جبّة الثورة في ظاهرها الحداثي الذي دشنته الثورة الفرنسية العلمانية 1789.

من بين التواجشات بين الثورة الإيرانية والنظام العسكرتيري الليبي يبرز توّجه كره الدولة من عدة كراهيات أخري، استقرت في قلب الثورة الشعبية الإيرانية التي شخصنتها "ولاية الفقيه" في "الخمينية" وهي جرثومة الكراهية التي تنبت جذورها في الأصول البدوية والريفية المعادية للمدينة ـ الدولة التي تقمصت قادتها سواء أكان ضابط اعسكريا في جيش تنفق عليه الدولة الحديثة أو واعظا في قّمْ المقدّسة يتلقى الصدقات من ضريبة العُشر التي يدفعها المُلاك وتجار البازار كما نبّه إلى ذلك المستشرق اليساري صاحب مؤلفات :الإسلام والرأسمالية والإسلام والماركسية.

تحتفل الثورة الإيرانية بيوبيلها الأربعيني لتعيش آيديولوجيتها الراديكالية الشيعية بل تتناسل في السلفيات والجهاديات الإسلامية التطرفية والإرهابية بينما مات منافسوها وغرماؤها بل أعداؤها الدكتاتوريون ضباط العسكر ورفاق الأحزاب القومجية المدعية العلمانية. بينما لا تنفك الثورة الخمينية التي عبرت منذ 40 سنة عن الإسلام المأزوم تقليص الثورة في ولاية فقيه وتفصيل الدولة على مقاس الإمام المُرشد. بينما الإسلام الذي انتهز ثورات الربيع التي بلا ثوار شرعن نفسه مرة بالديمقراطية وصناديق الانتخابات ومرات بالانقلاب على نتائجها وتأجيج العنف. هذا الإسلام بنسختيه حمل في عطفيه أوجناحيه طموحات التبشير الثوري في النطاق العالمي، بمعنى رغبته الأكيدة والشديدة في "تصدير" الذات إلى العالم بأسره.لتلوح صورة مزيفة في مرآة مهشمة.