Atwasat

فبراير وفراغ السلطة

صالح الحاراتي الأحد 17 فبراير 2019, 11:49 صباحا
صالح الحاراتي

التغيير الذي حدث في فبراير 2011 وما حدث بعده -وإن تباينت التوصيفات بين أنه ثورة أو انتفاضة أو حرب أهلية.. إلخ، ولكن نتيجته النهائية هي سقوط نظام، وبروز واقع سياسي لم يتشكل في صورته المستقرة حتى الآن، فالثورة تسقط أنظمة وليس بالضرورة أن تبني الدول، فتلك مهمة أخرى.

من المعلوم أن الحالة التي تفقد فيها أي حكومة سلطتها المركزية تسمى حالة فراغ السلطة أو حالة فراغ سياسي، وهى مثلها مثل أي فراغ مادي، ستقوم بكل تأكيد قوى أخرى إلى الإسراع لملء ذلك الفراغ بمجرد حدوثه، وأظن أن ذلك ما حدث بأشكال وأنماط مختلفة، ميليشيات مسلحة، أو جماعات متطرفة مسلحة، أوعصابات جريمة منظمة وغير ذلك ممن فرض تواجده على أرض الواقع بقوة السلاح..

كما أنتج الفراغ السياسى أيضا التكالب والتهافت على شغل ذلك الفراغ حتى وإن كان هؤلاء ممن لا يستحقون، خاصة في مجتمع لم يعرف شيئا اسمه التداول السلمي على السلطة.

وقد ساهم في ذلك التكالب ما هو ملاحظ من أن التغيير قد تم متوازيا ومترافقا مع فتح المجال أمام التدخلات الإقليمية والدولية التي تناصر الأطراف المتنازعة على ملء فراغ السلطة.

أذكر هنا قولا للفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) يقول "إن الإنسان بدون قانون أو دولة يرجع للحالة الأصلية الأولى أي الحالة "البدائية" التي كان عليها قبل ظهور المجتمعات الحديثة، وتكون الهمجية طاغية والفوضى مهيمنة والحياة مستحيلة إلا إذا لجأ الإنسان إلى تكوين وفرض القوانين والأنظمة، فالسلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة للهمجية".

وبناء على هذا الرأي يصبح التفكير في فراغ السلطة مسألة في غاية الأهمية لكي نتفهم أن حالة الفراغ السياسي وحال الفوضى أمر متوقع ويحدث بعد الحروب الأهلية أو بعد الثورات العفوية المفتقدة للقيادة والتي لم يسبقها تمهيد فكري يحدد الهدف والوسائل لكي يكون التغيير آمنا، وعلى سبيل المثال، حدث ذلك في دولة الصومال التي مزقتها الحرب الأهلية، وحدث فراغ في السلطة في البوسنة عقب تفكك يوغوسلافيا، وكمثال آخر حي وهو ما نعيشه واقعا في ليبيا إذ بمجرد سقوط النظام السابق، بدأ الصراع الداخلي لعدم وجود قوة داخلية فعالة تستطيع السيطرة على الوضع وكانت جميع الحلول التي طرحت من البداية تلفيقية ولم تصمد طويلا، مما دفع بجماعات إرهابية وميليشيات مسلحة إلى ملء فراغ السلطة والتناوش بين تلك القوى إلى أن انفجرت الحرب في منتصف 2014 لأجل الاستحواذ والهيمنة، ونتج عن ذلك المزيد من الفوضى والانفلات الأمني والانقسام بين السلطات التشريعية والتنفيذية.

كانت المجموعات الإسلامية الأكثر تنظيما بعد سقوط النظام وكانوا الأكثر قوة تسليحية بحكم الدعم الذي جاءهم من الخارج وأصبحت سيطرتهم واضحة.. وأغلب الظن أنهم من اغتال قائد الجيش لعلمهم أنه المنافس الأبرز لملء فراغ السلطة. أما في غرب البلاد ومع اقتراب سقوط النظام كانت ترتيباتهم تجري على قدم وساق للسيطرة على المجلس المحلي للعاصمة وسائر مفاصل الدولة من شركات الاتصالات والإذاعة والتلفزيون وغير ذلك من المؤسسات، وللأسف لم يتفطن معظم التيار المدني لذلك نظرا للانغماس بنشوة التغيير ولانعدام الخبرة وغياب الكوادر التنظيمية، وعندما انتبه الناس لمخطط التمكين وأتيحت لهم الفرصة للتعبيرعن موقفهم من خلال صندوق الانتخابات فى 2012 كانت المفاجأة لكل المراقبين للمشهد السياسي الليبي بنجاح التيار المدني بأغلبية ظاهرة ولكن لم تتوقف محاولات التشبث بالتمكين.

جرت مياه كثيرة في أقنية المشهد السياسي الليبي، وحدثت تدخلات إقليمية ودولية كثيرة منها العلني ومنها الخفي، وعزز ذلك غريزة الترؤس، وصار كثير ممن في المشهد السياسي الليبي الآن لا يثقون في اختيار الناس!! ولا يؤمنون بتداول السلطة، ذلك المنتج الإنسانى الذي لم يعرفوه طوال تاريخهم؛ ولذا استمر الصراع على السلطة من باب أن من يستحوذ عليها لن يتركها، لأنهم في أعماقهم لا يؤمنون بحق الناس في اختيار من يحكمهم، وغدت كل الشعارات المرفوعة ليست إلا للتمويه وحجب حقيقة نواياهم، بل يبدو أن قناعتهم انحصرت في ملء الفراغ وأن (اللي سبق أكل النبق).

إن فراغ السلطة أمر متكرر مع أي تغيير كبير ولا مفر من أن يأتي من يملأه ولا يمكن أن يبقى شاغرا المهم هنا هو الأخذ في الاعتبار تأثير ذلك الأمر على الأوضاع المعيشية للناس، وبما أن هناك حالة من عدم الاكثرات بمعاناة الناس فذلك دليل على أن الصراع على السلطة يتم بطريقة بدائية عنوانها الاستحواذ والغلبة!؟ وهو ما يكشف عن عدم فهم حقيقي للممارسة السياسية وتقبل الممارسة الديمقراطية.

وطوال السنوات السابقة استمرت حالة الفراغ السياسي هذه حتى بالوجود الشكلي للحكومات المتعاقبة لفترة، بل ربما انتهى الأمر إلى ما يسمى بـ "دولة المدن" وذلك عندما تحكم البلاد سلطة "مناطقية"هشة تستغل ذلك الفراغ وتوظف نفسها لأغراض شخصية أو تبث الفوضى لحماية سلطانها، فالنتيجة واحدة، إذ يتزايد نفوذ الجماعات المسلحة التي غالبًا ما تنشط في هذه البيئة من الفوضى. وتصبح البلاد مقسمة واقعيا.

لقد كان نتاج فراغ السلطة هو الفوضى الحالية وحالة التوهان وأظنها أمرا طبيعيا، لأننا لا نعرف ولم نعش في مجتمع يؤمن بالآخر، ودرجنا على أن (الآخر دائما عدو)، إما خائن أو كافر!! وترافق ذلك مع غياب لافت لقيم التسامح والتواضع وما ذلك إلا مخرجات لثقافة الغلبة والإقصاء "الثوري" التي دامت لأكثر من أربعة عقود، ناهيك عما يحمله تراثنا من قيم وهمية للرجولة والزعامة.. وسار حالنا إلى أن الكل يدعي أنه الصواب كله، ودخل الجميع ماكينة الصراع والتقاتل.

يقيني أنه لا حل أمامنا إلا بالاعتراف وقبولنا حقيقة أننا مختلفون ومتنوعون "وليبيون" في نفس الوقت، ولا مجال أمامنا لنعيش بسلام إلا بالاستفادة مما مر بنا وبأمم أمثالنا لكي نتجاوز ما علق بذواتنا من ثقافة الاستبداد، والاعتراف أن العنف السائد اليوم ليس حالة استثنائية بل هو نتاج مسار تاريخي متواصل" تمثل في الكثير من المنزلقات والانحرافات الحادة المتراكمة في مسار تاريخ منطقتنا والتى ارتبطت بالآراء المتطرفة والدموية التي أسست لواقع الغلو والانغلاق، مسار دفع ضريبته كثير من الرموز والأسماء التي لم تمشِ في الركاب وخالفت سير القطيع، مسيرة ممتدة عنوانها إهدار الكرامة الإنسانية واستباحة الدماء بلا شفقة، وللأسف يحدث ذلك ونعلق الأمر على شماعة مؤامرة أهل الخارج مرة والظروف الاقتصادية مرة وعلى اعتبار التطرف ردة فعل لقهر الحكام... إلخ.
بينما لا نجد أي محاولة جدية لإيقاف هذا النزيف من خلال المكاشفة والمصارحة ودراسة ما تحتويه العقول من فهوم خاطئة.

وكل فبراير قادم ونحن إلى الأفضل