Atwasat

مغالبة القوى الناعمة الليبية! (1969- 2019)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 12 فبراير 2019, 01:12 مساء
أحمد الفيتوري

1-
إن النظام الملكي في ليبيا - كما جُلَُ الأنظمة الحاكمة في حينها- كان يمنعُ إنشاء الأحزاب والمنظمات السياسية، بل يتم معاقبة كل من يساهم في إنشائها ولو سرا، وكان من هذا مقتل ذا النظام الذي فصل بين الثقافة ومؤسساتها وبين العمل السياسي، و "إن الوعي ونتائجه هما على الدوام، بأشكال مختلفة، جزء من العملية الاجتماعية نفسها" أو كما عبر عنه "ريموند ويليمز"، وهذا ما يُعبر عن أن الاستبداد والسيطرة ليسا بُعدا ثقافيا فحسب بل والأهم البعد الاجتماعي، فلم تكن الآيدلوجية الإصلاحية الدينية هي الحسم في مسألة التسلط السياسي، ولكن المسألة الاجتماعية الحسم الأبلغ، ولذا كانت ليبيا شارعا ناصريا وفي جُهوزيةٍ لانقلاب عسكري مُماثلٍ لانقلاب "جمال عبد الناصر" في مصر، و"هواري بومدين" في الجزائر.

لكن مع الانقلاب العسكري في سبتمبر 1969 بدأت الحواجز واتخذ الإقصاء منهجا وساد القمع والتعسف رغم أن النظام العسكري الذي سيطر به الملازم معمر القذافي كان يصدحُ بالوحدة العربية ويُمارس فعل الوحدة من خلال عقد عدة اتفاقيات سياسية. لقد غدت الثقافة في عرف هذا النظام أداةَ تغريبٍ وسلب وغزا مفهوم الغزو الثقافي البلاد.

وفي الفترة الأولى لهذا النظام العسكري كان المفهوم الديني هو المفسر للحياة فالدين والقومية هما مرتكزا الهوية و"القرآن شريعة المجتمع"، لكن القومية كانت كما ورقة سلوفان لتغطية وتمويه البعد الديني الجامح، وما كان مبررا أيدلوجيا لتكريس السلطة الفردية وعبادة الشخصية للزعيم الأوحد صاحب النظرية العالمية الثالثة معمر القذافي الذي نجح في جعل الثقافة مُرادفا للاستعمار، وعليه أسس "جمعية الدعوة الإسلامية"، وكان ساعتها السادات في مصر قد جعل من التيار الإسلامي يُمارس القمع في الجامعات، ويكاد يكون المُهيمن الجامح على الحياة في مصر ما بعد "عبد الناصر"، وقد أعلن "القذافي" -"أمين القومية العربية كما صرح" جمال عبد الناصر "في خطاب له بطرابلس في ديسمبر 1969- الثورة الثقافية في أبريل 1973 التي أغلقت المراكز الثقافية وكرست المؤسسات الثقافية كمؤسسات دينية، ومن هنا جعل من التلفزيون الليبي محطة لـ "مصطفي محمود" و "الشيخ شعراوي" ومن أيدهما من الليبيين مثل الدكتور "على فهمي خشيم" ومن العرب، وساعتها بدأ يتم تكريس ثقافة التلفزيون الشفاهية، والكراسات والكُتيبات التعليمية التي كانت وسيلة التنظيمات والأحزاب الشمولية للتثقيف وما نراها الساعة مُنتشرة في كل مكان تقريبا، ولقد أُحرقت الكُتب في الساحات العامة والآلات الموسيقية الغربية ومنع تداول دواوين "نزار القباني" مثلا وَعُد "محمود درويش" شاعر الشيوعية العالمية المُلحدة، وكان القذافي في أول خطابٍ له بعد الانقلاب أي في 16 سبتمبر 1969- وهذا اليوم هو ذكرى إعدام شيخ الشهداء عمر المختار من قبل الفاشية الإيطالية عام 1931 - قد أعلن أن من تحزب خان، وعليه مُنعت الحزبية وما في شاكلتها من مؤسسات ثقافية واجتماعية غير حكومية، فالمجتمع المدني بهذا عمل من عمل الاستعمار.

هذا المنحى الديماغوجي كرس مفهوما للثقافة هو خليط من مفاهيم الإسلام السياسي البارز حينها ومن العداء للعقل والعقلانية ومن أوهام التضخم النفطي بعد ارتفاع سعره عقب حرب 1973. هذا التضخم ضخم شخصية الزعيم القائد المفكر والمعلم القائد، في لحظتها قام النفط بتغطية معايبِ المرحلة عن النُخب فتكونت ثقافة النفط التي جعلت العقل يبحثُ عن مأوى في بلدان "البترول دولار"، لقد هاجرت عقول عربية عدة إلى بلدان النفط ومنها ليبيا، في حين في البلاد تم محاصرة الثقافة وقمع وسجن المثقفين بالجملة منذ أبريل 1973 وإغلاق المؤسسات الثقافية كالمركز الثقافي البريطاني والأمريكي ثم المصري... وغيرها، وكان تم اعتبار محو الأمية مفسدة، فالتعليمُ الحق ليس في دور العلم بل في الحياة، وهو فعل لدحر الثقافة كنظرةٍ نقدية، مثلا غير اسم كلية الحقوق إلى كلية القانون.
لقد تم إفقار الحياة من الثقافة، والتعسف جعل الحياة في الرمق الأخير، فـ "الكتاب الأخضر" فلسفة الحياة حيث لا فلسفة ولا حياة، وفي هذا تم توظيف الثروة النفطية في شراء كل ما يُكرس الفوضى واللاعقلانية وتكريس البلاد كإمبراطورية للفراغ، والكثير من المثقفين العرب وحتى من العالم كمثل "روجيه غارودي" يُدعون ويحضرون محافل "الكتاب الأخضر" ، وكـ "غالي شكري" من ساهم في إنشاء "مركز الكتاب الأخضر"، وبهذا تم حصر الثقافة في كُتيب وبه تم دحر الحياة الثقافية بل الحياة نفسها في ليبيا ولعقود: 1 سبتمبر 1969 - 17 فبراير 2011.

اعتلال كبير أصاب الثقافة من قبل هذا النظام الذي من أدبياته مفهوم "اللا دولة" ما عمل على تكريسهِ، ونزعَ الى تحقيقه في أجواء يُوجزها القاص الليبي عمر الككلي في قصة بعنوان "صناعة محلية ": مواطن أراد شراء كراس إملاء ذهب لمحل وطلب كراس بهامشين، اعتذر البائع بأن ليس لديه إلا كراس بهامش على اليمين، مضطرا اشترى الكراس، في البيت كشف عن الكراس لم يجد به أي هامش. لكن الثقافة والمُثقف الفاعل يدرك أن في الطين يكمن التمثال.

2-
لهذا المؤسسات الثقافية الليبية جنحت لوسائط ووسائل تنأى بها عن المُجابهةِ المُباشرة مع السلطة الغاشمة، لهذا أعتقد أن هذا ساهم في نتاج موسوعي بين: فـ "مركز الدراسات التاريخية الليبية " أنتج موسوعة تاريخية ليبية شفاهية في العديد من المجلدات، وسجلت حقبة تاريخية هي فترة مقاومة الاستعمار الإيطالي، كذلك تم تحقيق وأصدر في مجلدات يوميات الفقيه حسن التي كُتبت بعامية مدينة طرابلس الغرب في أكثر من نصف القرن الثامن عشر، وكذلك أصدر "مركز الدراسات الأفريقية": "الموسوعة الأفريقية" الدولية في العديد من المجلدات وبمشاركة دولية، وأنشأ الكاتب والباحث الليبي المعروف "الصادق النيهوم" دار لتحرير وترجمة وإصدار الموسوعات العلمية ومنها موسوعة "بهجة المعرفة" وموسوعات تعليمية علمية ومهنية متخصصة للنشء وموسوعات تاريخية مصورة، أما الكاتب يوسف الشريف فقد تخصص في ثقافة الطفل وبمجهود ذاتي أصدر "معجم اللعة العربية للأطفال" و"الموسوعة العلمية الميسرة" وغيرهما الكثير.

وكذلك النجاح الذي حققته الرواية الليبية التي صدر أغلبها في الخارج فهناك أسماء روائية ليبية لا يمكن تجاوزها في الرواية التي صدرت خلال قرن مثل روايات إبراهيم الكوني التي ترجمت للكثير من لغات العالم، والروائي هشام مطر الذي يكتب بالإنجليزية، والروائي أحمد إبراهيم الفقيه وغيرهم.

إن هذا المنحى هو ما نحته الثقافة الليبية والمبدع الليبي، في بلاد فيها الثقافة كانت لنصف قرن العدو الأول الذي تعمل السلطة على استبعاده، وما بعد ثورة فبراير 2011م كما ليبيا بين المطرقة والسندان.