Atwasat

نطري ليبيا وين ما اضّيق خلوقي

أحلام المهدي الثلاثاء 12 فبراير 2019, 01:10 مساء
أحلام المهدي

لكل منها درب تسلكه إلى قناعات الجماهير فمنها ما يعتمد على الموسيقى الأوركسترالية الصاخبة والمفردات المنتقاة بعناية من قاموس القوة والهيبة في لغات الشعوب، ومنها ما يقوم على تغذية القيم الإنسانية المحضة من حب للمكان وانتماء له وارتباط وجداني وثيق بكل ما فيه ومن فيه.

تلك هي الأغنية الوطنية التي تمتلك قدرة عالية على الارتباط بالطغاة تماما كما ترتبط بالأرض ومن عليها، ونسمعها بأصوات من ينتمون لكل كلمة فيها كما يمكن أيضا أن نسمعها بأصوات متكسّبين يحملون "المايك" في يد و"الشيك" في اليد الأخرى.

في ليبيا وفي كل مكان تعيش الأغنيات المرتبطة بالأرض ومن عليها، وتموت سريعا تلك التي تهتف للحكام وتسبّح باسم الطغاة، وليس أوضح مثالٍ على ذلك من رائعة أحمد فكرون "يابلادي حبك موالي" التي سنغنيها في كل الظروف بعد أن جعلت من ليبيا أما وأبا ووطنا وبنتا وحبيبة وترابا ضم أجساد وأرواح الجدود، ومن أغلى من كل هؤلاء.

نجد هنا أن الأغنية الوطنية تكون أكثر إنصافا وتأثيرا وإقناعا عندما تكون بلسان ابن الوطن موضوع هذه الأغنية والفلك الذي تدور فيه، فقد اختفت تلك الظروف التي جعلتنا يوما نؤمن بـ "وطني حبيبي الوطن الأكبر" بصوت صباح اللبنانية تماما كما نفعل بصوت شادية أو عبد الحليم حافظ المصريين، بعيدا عن جنسيات كل هؤلاء.

يصبح الأمر أكثر تعقيدا كما في كل مرة نتحدث فيها عن ليبيا، فالليبي مهما كان انتماؤه سيسمع أحمد فكرون في أغنيته "نطري ليبيا وين ما اضيق خلوقي"، لكن الفبرايري لن تروقه أغنيات خالد الزروق والسبتمبري لن يسمع أغنيات صلاح غالي مثلا.

يتجرد الفن من رسالته، ويمزق الفنان صكّ إنسانيته بمجرد غمسه كلمات أغنية في "طبيخة" السياسة، هذا حكم عام، لكني أراه مضاعفا ومشددا عندما يكون الفنان "أجنبيا"، ففي الحالة الليبية نجد مثلا أن التونسية لطيفة تغني لتونس وعلى مسارح تونس:
أهيم بتونس الخضراء حبا فاق عن ظنّي
ومهما كان تغريبي فتونس قطعة مني
للطيفة أيضا تسجيل قديم ترتدي فيه الزي العسكري وتغني لوطنها عاشت تونس الخضراء عاشت بلادي، وعندما غادرت لطيفة الوطن التونسي الذي غازلته بالمطلق وفي كل حالاته، قالت في ليبيا وعنها:
فاحت مع الريح ريحة بلادي
وتربة اجدادي
في وين ما النار حرقت اكبادي
حتى تصل إلى بيت القصيد:
فاحت مع الريح ريحة عطوره
صقر الصقورة
في وين ما يكون تحضر النّورة
توغّلت المغنية التونسية عميقا في الشأن الليبي حتى وُصِفت بالمناضلة!.
أرى شخصيا أنها لم تحترم دولة لا تحمل جنسيتها ولا تنتمي إليها، ولم تلتزم بلباقة الفنان التي حافظت عليها وحرصت على التحلي بها عندما تعلق الأمر بدولة أخرى مثل مصر:
مهما رحنا ومهما جينا مصر روحنا ونور عينينا

أو الأردن:
يا أردن الأجواد يا حرة عريقة في الأصل والدينِ
أمينة كنت ومازلتِ كفّاكِ في كفّي فلسطين
إن أغنيتها لمصر قديمة، لكن ما حدث في مصر في السنوات الأخيرة لم يجعلها تغير لهجتها، فاستمرت في احترامها لمصر ولخيارات المصريين فقالت:
الناس دي غيرت تاريخ بلد بصوت
الناس دي مستعدة عشان نعيش تموت
فلتحيا مصر ويحيا شعب مصر
فلتحيا مصر إذا، تقول تونسية وتتجنب أي شرخ في علاقتها بالجمهور المصري الذي لا يرحم من يسيء لمصر حتى إذا كان بحجم ابنة مصر "شيرين"، ولتذهب ليبيا إلى الجحيم والجمهور الليبي وحتى الرداء الليبي الذي تلبسه كلما همّت بالغناء تحت خيمة ليبية، ورسمت مسحة من حزن كاذب على ملامحها الباردة.

نعرف أن كاتب هذه الكلمات ليبي، وقد نجد له العذر في أن يقول أكثر من ذلك، لكن أن يُجلَد ليبيون بسياط الفن التي يلوّح بها فنانون غير ليبيين، فهذا هو الهراء بعينه، وهذا هو الاسترزاق في أحط صوره، الفن رسالة والوطن غالٍ، أما الأجنبي فيفسد كل شيء في الوطن وفي الفن إذا ما دخل ملطخا صوته بعفن السياسة، أما نحن الليبيين فيجمعنا أننا دائما "نطري ليبيا" وين ما اضيق خلوقنا، وسنظل.