Atwasat

النهر المقدس

محمد عقيلة العمامي الإثنين 11 فبراير 2019, 01:21 مساء
محمد عقيلة العمامي

سبحتُ في أنهار عديدة، وقفزت مع شلة من شباب وشابات من فنلندا في نهر (فانتا) المتجمد في هلسنكي منذ أكثر من نصف قرن، وأخرجوني نصف ميت كلوح ثلج كاد أن يظل كذلك إلى يوم البعث، وأستطيع أن أحدثك عن نهر الأمازون أطول وأهم وأخطر أنهار العالم، وتسكعت على ضفاف (الدنوب) و(التيمز) والنيل الأبيض، وأيضا الأزرق، في السودان رفقة رفيق- ما زال خاطره في الدنيا- يبحث عن قطعة مجففة من ذيل تمساح يقال أنها تعيد للكهل شبابه!ّ وهدهدني نيل مصر العظيم ليلتين في رحلة من القاهرة إلى الأقصر. وعبرت النهر الأحمر في فيتنام.. وتسكعت على ضفاف عدد من أنهار لا أذكر اسمها.

وسمعتُ عن نهر الأردن، وتعجبت كيف أن دور وعمارات عمان الفاخرة تشتري مياهها من سقا يطوف عليها بعربته المعدة لذلك، ولم يتوقف عجبي إلاّ بعد أن عرفت أن المسافة بين عمان والنهر حوالي 100 كيلومتر. ولكن دعوني أخبركم لِمَ اهتممت بنهر الأردن، الذي لم أعرف عنه شيئا إلاّ بعد أن وصلتني تهنئة من سيدة مسيحية اعتدنا أن نتبادل التهانئ بمناسبة أعيادنا، الإسلامية و المسيحية.

كانت المناسبة هي عيد الغُطاس، الذي عندما بحثت عن معناه عرفت أنه عيد ظهور الثالوث المقدس عند المسيحيين، الأب والإبن وروح القدس، في يوم هذا العيد عُمد عيسى عليه السلام، عندما غطسه يوحنا المعمدان، في نهر الأردن، ليختتم بذلك العهد القديم، فصار عيدا مسيحيا يحتفل به المسيحيون يوم 19 يناير من كل عام. ويعدونها مناسبة مهمة، فهي بداية استلام العهد الجديد، من العهد القديم، الذي يسمى في ثقافتنا الإسلامية التوراة.

يعني أن لنهر الأردن قدسية عند المسيحيين، وهو النهر الذي جعلته إدارة بريطانيا العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية الحدود ما بين فلسطين والأردن، فقررت أن أعرف كل شيء عن هذا النهر، الذي لا أذكر أنني بطول دراستي من الابتدائية إلى الجامعية عرفت عنه أي شيء، سوى أنه يفصل الأردن عن فلسطين.

من نهر الأردن بدأت رحلة السيد المسيح الأخيرة إلى بيت المقدس، ومما تذكره الديانة المسيحية أنه، عليه السلام، أطعم بهذا النهر خمسة آلاف شخص بخمسة أرغفة وسمكتين. وتقول أسطورة ثانية أن القديس كريستوفر عندما كان يحمل المسيح ويعبر به النهر التقط سمكة انطبعت عليها بقعتان من إبهامه وسبابته، وهي سمكة اسمها العلمي (Zaios-zeus) ، وهو اسم مشتق من كبير آلهه الحضارة الإغريقية، وتسمى على اسم قديس يدعى ( جون دوري) ونسميها في ليبيا (الديك). وعلاقة المسيح بالسمك ذُكرت في الكثير من المصادر الدينية، فعلى ضفاف "بحيرة طبريا، التي تنخفض حوالي 200 متر تحت سطح البحر، يقع ميناء (كفرناحوم) وكنيسة للروم الأرثوذكس ودير للفرنسيسكان وجدران ومدافن ومعاصر وخربة المباركة التي ترتفع حوالي 125 مترا فوق مستوى سطح البحر وتضم ديرا (للطليات) وهو يقع في نفس المكان الذي ألقى فيه المسيح خطبته المشهورة (موعظة الجبل).ومن أبرز المعالم المجاورة لها حجر ترقيم المسافات الذي يعود إلى زمن الإمبراطور الروماني (آدريانوس)، حيث عاش المسيح يصطاد الأسماك، وهناك وبخ حواريه عندما أرعبتهم عاصفة، وقال لهم قولته الشهيرة: " لماذا تخافون يا قليلي الإيمان؟".

ونهر إله المحبة هذا، ليس مسالما على الإطلاق، لا من ناحية تضاريسه ولا من الناحية السياسية، فمياهه ليست سلسة الانسياب، ولم يتوقف الصراع للسيطرة عليه منذ زمن الإغريق، فهم أول من عبروه، واحتله الصليبيون لأكثر من 88 عاما إلى أن تغلب عليهم صلاح الدين الأيوبي عام 1187.

وبامتداد النهر ثمة مناطق تكون المياه فيها صافية، ويعبر النهر الصحارى الجرداء، وإن كانت هناك غابات ممتلئة بالحيوانات والثعابين القاتلة، مثل (ثعبان فلسطين) و(حية كليوباترا) وقبل أن ينتهي النهر بالبحر الميت بمسافة، يوجد منحنى جميل يسمى (مخاض الحجل!) وهناك عُمد المسيح عليه السلام، وهناك عدد من الأديرة والكنائس لمختلف الطوائف كلٌ لها طقوس تغطيسها؛ مسيحيو الحبشة يصاحبون طقوس التعميد بالطبول، فيما يصاحب طقوس المسيحيين المصريون نغمات الدفوف.

نهر الأردن ماض في جريانه، يكدر هدوءه الطلقات، وكذلك التصريحات، النارية بين حين وآخر، وتنخفض مياهه كثيرا وتعيق مشروعات الري في بعض الأحيان، ولكن هناك دائما الربيع وخلاله ترتفع المياه وتمنح الحياة، مثلما كانت من قديم الزمان، وخُلّد في الترانيم والصلوات المقدسة وباركها الجنس البشري منذ آلاف السنين، هكذا وصف لنا الكاتب (جورج كيت) هذا النهر الذي أكد أن عبور بعض مناطقه خطير بسبب التيارات، التي اكتسحت الكثيرين، ونجا منها الكاتب (مارك توين) الذي عبره، وكأنه يريد أن يقول إن الكُتاب والشعراء وحدهم من يهبون الحياة للأماكن والبشر والتاريخ! ويستمر نهر الأردن في غسل وجوه محبيه بمياهه القدسية.