Atwasat

حين يهبط جبريل في التاريخ

سالم العوكلي الثلاثاء 05 فبراير 2019, 01:29 مساء
سالم العوكلي

اللغة حقل ألعاب خصب والكلمات نفسها تثير الصور المختلفة حسب وقوعها في السياق، أو حسب ارتدادها من عقل المستقبِل وفق تصوراته المسبقة، ومن ضمن ألاعيبها المثيرة تلك التعبيرات الشائعة التي تجمع كلمتين متضادتين في علاقة واحدة، عبر النعت أو الإضافة أو العطف، ما يُركِّب سياقا خبيثا تُهدأ فيه مفردة عنيفة بمفردة أخرى ناعمة، أو ترفق فيه مفردة رومانسية بفتيل مفردة أخرى قابلة للانفجار. هذا المزج الكيميائي للمفردات في مركب واحد يشبه صناعة قنبلة على شكل لعبة أطفال، أو وضع قفاز حريري على قبضة ملاكم لا تمنع تناثر الدم فوق الحلبة، أو استخدام فتاة جميلة كعميلة لجهاز استخبارات، ومن أمثلتها الشائعة:

الحرب النظيفة، أم القنابل، رصاصة الرحمة أو الموت الرحيم، النيران الصديقة، العنف الناعم، الفوضى الخلاقة، الإرهاب المحمود، والقائمة تطول، وهي سياقات تحاول أن تلطف وقع كلمة قاسية بإضافتها أو بنعتها أو بعطفها مفردة أخرى حميمة وقريبة من وجدان السامع، لكن من أكثر هذه السياقات تلاعبا وقسوة عبارة "الدكتاتور العادل" التي استطاعت بكيمياء عجيبة أن تجمع الدكتاتورية المقترنة تاريخيا بفكرة الظلم مع العدل كمفردة تسبح مثل السراب الراقص في مخيلة أي إنسان، وفي النهاية مثلما النيران تُفحّم الأجساد حتى وإن كانت صديقة، فالدكتاتور سيُنكّل بشعبه دون أن يتحقق العدل.

ما يعنيني الآن في هذا السياق تعبير راج سياسيا، منذ نجاح أول ثورة تبنت الدين مشروعا لها في العصر الحديث، واستطاعت أن تجتث النظام السابق لها وتبني نظام ولاية الفقيه الساعي لتوسيع رقعة نموذجه، بدل نظام الشاهنشاه المهووس بإعادة بناء الإمبراطورية الساسانية، وكان التعبير الرائج لهذا التحول والذي مازال يستخدم حتى الآن: "الثورة الإسلامية" الذي وصف ذلك الانقلاب السياسي والاجتماعي الهائل في إيران، بشكل حرك خلفه كل هواجس التغيير الديني الممكن في المنطقة، حتى وإن كانت مجموعات مسلحة صغيرة دون مشروع رأت أن فكرة (الثورة الإسلامية) قابلة للتحقق في مواجهة الأيديولوجيات المتصارعة، وأن عودة نظام الخليفة ممكن مثل عودة ولاية الفقيه.

في صدد تحليله لهذه المواجهة بين المفردتين في السياق اللغوي وما ترتب عنه من مواجهة في التاريخ، يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان في كتابه "أوهام الهوية" ترجمة محمد علي مقلّد : "ماذا تعني ، مثلاً، هذه العبارة التي سال، من أجلها، كثير من الحبر: الثورة الإسلامية؟ إن هاتين المفردتين ، إسلام وثورة، تتحرك كل منهما داخل منظومة فكرية مختلفة، وتحيلان إلى قيم أخرى. وإذا كانت الكلمة الأولى، كلمة الثورة هي مغامرة الروح في الزمن التاريخي، فالثانية تبقى خارج حركة التاريخ الدنيوي، وترفع ستارا عن الحقائق الموجودة، إذا صح القول، في ما وراء التاريخ (ميتاتاريخ). أما الاختلاف الذي يضاد بينهما، فليس تباعدا في الرأي، بل اختلاف جوهري كذاك الذي يضاد منظومة الأفكار بمنظومة أخرى. وعندما يبدأ عصر التصادم بين المنظومات ينزل الملاك جبريل في التاريخ ويغدو، بفعل ذلك، أكثر اهتماما بصراع الطبقات منه بالرغبة في القيام بدوره كناقل للوحي الإلهي".

إذا ما اعتبرنا نزول الملاك جبريل، في هذه الحالة، في التاريخ تعبيرا مجازيا لا يخلو من روح الفكاهة، إلا أن ما حدث في الثورة الإيرانية من نزول مشابه، يُعد في الواقع واقعة تاريخية حرفيا. فحين اكتظت شوارع إيران بالحشود المنتفضة التي شكل فيها اليسار الإيراني دورا مهما ووفق أهداف دنيوية محددة لهذه الثورة، نزل الإمام الخميني من السماء عبر طائرة أيرباص فرنسية رفقة حارسين من المخابرات الفرنسية، لتتحول هذه الثورة ذات المطالب السياسية المتمثلة في القيم الجمهورية إلى ثورة دينية تقودها العمائم ، لب مشروعها (الميتاتاريخي) عودة الإمام المنتظر ليخلص الأرض من كل الشرور.
بعد سنوات من هذه الثورة استطاعت السلطات الدينية الجديدة أن تصفي الدولة العميقة بشكل ناجح بالنسبة لها، غير أن المعنى المتضاد الذي يحطم بعضه في تعبير "الثورة الإسلامية" نزل من ثنائية التدمير في السياق اللغوي إلى الواقع على الأرض في دولة بنيت على هذه التضادات وخاضت صراعات تدميرية تحطم فيه الدولة نفسها بالشكل الذي رُكّبت فيه العبارة كجزئين من الوزن الحرج لقنبلة ذرية قابلة للانشطار بمجرد أن يلتصق الجزءان، أو ما يسميه شايغان، الخلائط "التي تخلق حقل هجانة للأفكار تكون فيها كل أشكال التجميع (الكولاج) وكل التحولات، حتى أكثرها انحرافا، أمرا ممكنا. إننا إذا أردنا العودة إلى الماضي، لا نعود ألبتة إلى ما قبل الحداثة، ذلك لأن الحداثة تشكل، شئنا ذلك أم أبينا، خلفية وجودنا الأولى، والمحيط الذي نحيا فيه، والفضاء الذي يغلفنا وفيه نتطور وننمو، والبنى الابستمولوجية اللازمة التي تشرط معرفتنا، والتي تغير بيئية علاقاتنا الاجتماعية.".

ربما استطاعت ثورة إيران الإسلامية أن تقوض بنى الدولة العميقة على مستوى المؤسسات المديرة للمجتمع، لكنها لم تستطع إعادة المجتمع إلى حالة ما قبل الحداثة المتشرب بها وفق احتكاكه بكل نتاجاتها المادية والمعنوية، ومن هنا نشهد هذا الصدام اليومي بين أكليروس إسلامي ثبّت قواعده في السلطة وبين مجتمع يطمح لأن يعيش في قلب العصر الحديث.

رغم عدم دقة المقارنة بين الثورة الإيرانية وثورات الربيع العربي، إلا أن ثمة نقاط تشابه كثيرة، فتلك الحشود التي بدأت هذا الربيع منطلقة من الطبقة الوسطى وعن طريق الثورة المعلوماتية وبمطالب تتعلق بالديمقراطية والحقوق والرفاه، تسرب إليها ذاك الصدى المثير للثورة الإيرانية، بداية بارتباط هذا الحراك بأيام الجمعة والجوامع والتكبير، ونهاية بالمطالبة بتطبيق شرع الله وعودة نظام الخلافة، وبحنين مضمر لفكرة الدكتاتور العادل النازل من السماء ولو كان عن طريق طائرة أيرباص، ومن بداية الحراك تهاطلت الطائرات القادمة من مطارات أوروبا تحمل على متنها قادة إسلاميين ــ يمثلون حسب وصفة الغرب الإسلام المعتدل ــ كانوا منفيين لسنوات طويلة، مثل الخميني، في عواصم الغرب.

واستطاعوا عبر استثمار هذا الصدى الرومانتيكي للثورة الإيرانية أن يستقطبوا الحشود ويصلوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع كما في تونس ومصر، أو عبر المال السياسي أو الانقلاب المسلح كما حدث في ليبيا، غير أنه في الحالات جميعها ــ ورغم تكتيكات هذا التيار المختلفة ــ تصادمت المجتمعات السابحة في فضاء الحداثة حتى ولو كانت عن طريق استهلاكها، مع هذا الخطاب الرجعي أو السلفي الذي جاء بشعارات الخلاص والمخلص دون أن يقدم برامج حقيقية لنشل المواطنين، أو بمعنى أقرب، الرعية، من الفقر والبطالة، وكل إنجازه تمثل في إنعاش حنين شعبي جديد لعودة الشاهنشاه أو النظم العسكرية التي قامت ضدها الثورات.