Atwasat

ثروة الثورة المُهدرة

نورالدين خليفة النمر الأحد 03 فبراير 2019, 12:37 مساء
نورالدين خليفة النمر

برز بشكل واضح فيما سُمّي بـ«تشاوريات» الملتقى الوطني التي نظمها مركز الحوار الإنسانيCentre for Humanitarian Dialogueـ ومقرّه الرئيسي بمدينة جنيف السويسرية (!)، في الفترة من 5 أبريل إلى 11 يوليو2018 بتكليف من البعثة الأممية في ليبيا، توجّهه نحو نظرية الحاجات الإنسانية"The Human Needs Theory" التي تجادل في أن أسباب النزاعات تكمن في مجموعة من الحاجات الإنسانية العامة لم يجرِ إرضاؤها، وتدعو هذه النظرية إلى تحليل هذه الحاجات والتواصل بشأنها وإرضائها من أجل الوصول إلى حل للنزاع .

تعود جذور النزاعية الليبية إلى ماقبل نشوء البيئة الانقسامية المجتمعية التي أرهص لها التغيير الذي طال النظام الدكتاتوري في ليبيا 1969 ـ 2011. والذي اشتعل نزاعاً مجتمعياً مُسلّحاً عام 2014 في ضرب من ضروبه على المورد النفطي كونه الريع الوحيد الذي هيمن على المعاش البشري الليبي لأربعة عقود ومازال، والذي تمت إدارته في العقدين ماقبل إسقاط النظام عام 2011 بالثورة الشعبية بطرائق الزبونية التي يشترطها المنحى الأُتوقراطي في السلطة الدكتاتورية التي تقمصت الفوضوية الجماهيرية.

وبثورة 17 فبراير 2011 التي تسلحت من البداية، وبعد انتصارها نشرت فوضى السلاح، وأصدرت شهادة موت الجيش الميت، وانهارت على وقع ضرباتها المؤسسة الأمنية العائلية والقبلية والولائية. فاختفت حتى المظاهر الشرطية المدنية كشرطة المرور والجمارك والبلدية. وعمّت الفوضى كل مناحي الحياة المؤسسية والخدمية.

لكن هذا التداعي الذي يشبه الاضمحلال لوظائف الدولة يبدو أنه غير متصوّر إلى حد الآن حتى في ذهنية مسؤولي البعثة الأممية إلى ليبيا التي كلّفت مركز الحوار الإنساني (!) بإدارة هذه التشاوريات التي من بيزنطياتها هذه العبارة المتناقضة التي تنفي مقدمتها الصغري المبتدئة بـ «بعض المناطق» مقدمتها الكبرى المبتدئة بـ «كل مكونات وفئات الشعب الليبي» : تضم بين بناتها وأبنائها كفاءات مؤهلة لتولي كل المناصب العليا. وعلى هذا الأساس، لا يمكن القبول بتهميش مناطق بعينها في بعض المناصب العليا بذريعة انعدام الكفاءات فيها.

وفي حال لم تتوفر بعض الخبرات المتخصصة في بعض المناطق نظرًا لتعاقب عقود من التهميش، فإنه من الضروري أن يتم توفير كل الإمكانيات المادية للتدريب وبناء القدرات بما يمكن من الوصول إلى التمثيل المنصف في توزيع الوظائف.

نلحظ بونا شاسعاً بين المقصود بوظيفة الدولة التوزيعية «Allocation State» لدى المتحاورين الليبيين، الذين تهيمن عليهم الذهنية الريعية التي غذّاها التنظير الديماغوجي لرأس النظام الدكتاتوري بربطه بين الحريّة البدوية والحاجة التي تتملكها الغرائز والتي يتم إشباعها بالبدائيات، كالمقايضة، والشراكة، وتوزيع الثروة «الريع» بمبدأ الزبونية، وما يتقصده مركز الحوار الإنساني بالوظيفة التوزيعية للدولة المقيّدة بالمبادئ الديمقراطية.

أوردت التقارير أن المتحاورين الليبيين انتظمهم، بإدارة مركز الحوار المذكور ،77 اجتماعًا في 43 بلدية في الداخل الليبي وعدد من مدن المهجر، فضلًا عن مشاركة نحو 1300 استبيان، وما يقرب من 300 مشاركة مكتوبة عبر البريد الإلكتروني. ومن خلال الخلاصات يبدو أن الخطاب في جل الحوارات متوجه إلى الحكومة الليبية المركزية، وسلطتها التنفيذية التي لايطابقها واقع الحال، وعلى هذا الافتراض كما ورد في التقريرات المنشورة بصحيفة الوسط أن الكثير من الليبيين الذين شاركوا في الملتقيات بتوجيه من مديريها السويسريين اتفقوا على صلاحيات مفترضة لهذه الحكومة للدولة الموهومة.

ومن الصلاحيات التي انتقيت لعرضها في المقال حتى لايطول، الصلاحيات التوزيعية وتتمثل ـ كما أوردته إحدى الخُلاصات في نقاط إحداها ـ : «في إدارة الموارد الوطنية والطبيعية وتوزيعها على المناطق والمواطنين».

روبرت ماكيفر: يميّز بين ثلاثة أنواع من الوظائف الحكومية: الوظائف الثقافية ـ بماعنته الماركسية بالبنية الفوقية ـ ، والوظائف المتعلقة بالرفاه العام ـ بماعنته دولة الرفاهية التي توفر مايزيد عن إشباع الحاجات الأساسية ـ ، ووظائف الضبط الاقتصادي والمالي بمايحقق الشفافية والرقابية عبر المؤسسات الديمقراطيةـ ، وهي وظائف مترابطة.

كما أن الحكومة تعمل وفقاً لميزان للقوى بين المؤيدين والمعارضين، وتنحاز إلى مصلحة دون أخرى، فهي بطبيعتها انتهازية، وتواجه بطبيعتها، الأوضاع والأحوال التي تضع وفقاً لها سياساتها والطريقة التي تنفّذها بها؛ فإذا أرادت أن تخدم حاجات الشعب،عليها أن تتجاوب مع مطالبه،على الرغم من أن هذه المطالب متعارضة ومتنوعة، مايفرض عليها الالتجاء إلى التسويات.

وبما أن مطالب الحكومة من المواطنين مطالب إلزامية، فإنها تحتاج إلى قوة إكراهية تختص بها أو بالأحرى تحتكرها الحكومة وحدها، الأمر الذي يوّلد شعوراً عند المواطنين مؤداه أنها تتدخل في حياتهم اليومية، وهو شعور تختلف حدّته بين مواطني النظام الديمقراطي ـ وهو ماعبرت عنه مظاهرات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا ـ ، والنظام الأوليغاركي الذي يكون هذا الشعور لدى مواطنيه أكثر حدة وقوة بما أنهم يعانون قسرية الدولة في كلّ شئ.

ليبيا التي فكّكت الأُتوقراطية الفوضوية في النظام الدكتاتوري المُسقط عام 2011 معالم الدولة فيها، كانت الاستثناء الوحيد من البلدان التي طالها تغيير ماسمي بالربيع العربي بأن نقلتها الثورة من حالة الدولة التي تتوخى فيها السلطة اصطناع الفوضى المبرمجة بالإلزام ولإكراه، إلى حالة الثورة التي سرقت مضمونها وزيّفته شريحة مجتمعية فاسدة وغير مؤهلة تسللت إلى واجتها، ورمت بها طوعياً في القبائليات والجهويات والإسلامويات الواهمة والعنفيه في بيئة فوضوية مسلّحة.

ولّد الانسداد الذي ضرب عميقاً في سابق النظام الدكتاتوري في ليبيا شعوراً بالخوف من المجتمع مضلل بالاستهانة عكسه الاهتمام المفرط بالأمن وأجهزة القمع وتعدّدها وتداخلها وانتشارها، ما يستلزم ميزانية كبيرة يقتطعها النظام، لحماية نفسه، من المال العام على حساب الانفاق الاستثماري المطلوب لإنشاء مناخات تنموية عامة وتأمين فرص عمل لأجيال شبابية صاعدة، فضلاً عن حاجة المجتمع إلى الإنفاق على الصحة والتعليم والطاقة. ففي عالم عربي موقوف عن التطور بفعل ريعية مُكرّسة للسلطة في جُلّ الدول العربية، أي ممارسة الأفراد والجماعات حقّهم في اختيار ممثليهم بحرية من دون إكراهات السلطة والعشيرة والطائفة والمذهب، ما أدّى إلى انسداد أفق التغيير، فأصبح المجتمع عاجزاً عن إنتاج قادته، وتحوّل النظام إلى قوة طاردة بدلاً من أن يكون قوة جذب، ماجعل سبل التغيير تنحصر في وسيلة واحدة: ثورات شعبية بدون ثوار في فوضى دائمة لاتركن للاستقرار وثروة الثورة مصيرها الإهدار.