الخبز... كلما أعطيت منه زاد. كلمة قالتها حني سالمة ذات مرة التصقت في جدار ذاكرتي الصغيرة حينما كنت طفلة ألعب بجوارها وهي (ترمي خبزة التنور)
ذاكرة الصغار تظل نقية صافية لا تعبث بها ظنون الكبار ولا تطالها شكوك المشككين فأنت لا تجتهد في فهمها وتظل حبيسة مدخراتك إلي أن يأتي وقت استخدامها.
حني سالمة تلك الجارة الطيبة التي يعتقد أطفال الحي جميعهم بأنها جدتهم كلهم وقد كانت كذلك بحبها وعطفها وكرمها كنا نجتمع حول تنورها في مساء رمضاني جميل ننتظر خبزها الذي كان لكل بيوت الحي نصيبٌ منه ولكل طفل (قنان) هدية لمن كان صائماً من الصغار.
لم نكن نعرف ما معنى الكذب ولكن كنا نعرف بأننا إذا أردنا أن نحصل على رغيف الخبز الصغير الذي نسميه (قنان) فعلينا أن نصوم ولو نصف يوم.
لم نكن أغنياء ولكن لم نعرف الفقر. كانت حني سالمة توزع خبزة التنور على الجيران وعابري السبيل (مجاناً) رغم أنها لم تكن غنية وكانت صاحبة متجر صغير تقتات منه هي وأسرتها إلا أنه لم يتبادر إلى ذهنها النقي يوماً بأن الخبز سلعة مربحة للاتجار.
كثيراً ما كنت أسمع من أهل الحي بأن الفقر غولٌ لا يغُلب إلا بالعطاء.. عطر الماضي مايزال هو الأمل الذي يراود المستقبل بعد أن لوثته رائحة الحاضر العفنة. ولكن يظل السؤال كيف لوطن أنبت هذه القلوب الرحيمة أن يثمر العوسج وأن يأكل بعضه بعضا؟.