Atwasat

بومدين.. الليبعودي

سالم الكبتي الأربعاء 30 يناير 2019, 04:56 مساء
سالم الكبتي

عام 1926 كانت ولادته في الرويسات بالبركة، وحين أضحى عمره في الثامنة عشرة عام 1944 انطلق من بنغازي صحبة والدته إلى الحجاز وظل هناك إلى الآن. بقايا الحرب والطرق الطويلة تمتد أمامهما بلا انقطاع. صارت البركة بعيدة واختفت المعالم العديدة لكنها ظلت في القلب على الدوام. 

بين هذين العامين تاريخ يمتد. تطل تفاصيل تجربة إنسانية لفتى من بنغازي اسمه مفتاح امحمد عبد الله بومدين، وبدلاً من مفتاح سماه خاله المرحوم مصطفى بدر الدين عند وصوله إلى الحجاز. (عبدالفتاح بومدين) ربما لعدم انتشار الاسم السابق في تلك الديار كما في بنغازي أو البركة. 

هذا الصبي البركاوي عبدالفتاح بومدين حياته وسيرته تعنيان العصامية والكفاح الذاتي والاجتهاد، ومواجهة الظروف واجتياز الصعاب. في أوقات أصعب. لم تكن الأمور سهلة أو متيسرة. في البداية مثل كل أطفال بنغازي وبالقدر الذى تسمح به الأحوال تلقى تعليماً أولياً على يد الفقي أبوبكر الفزاني في جامع بلوطه بالرويسات ثم عمل صبى مقهى وخبازاً وبائع خضار وبناء.. يحيط وسطه بشملة حمراء.. ويعلو السقالات.. ويخلط العجنة.. ويبني. وأسهم بهذه الجهود في ترميم وصيانة مباني مطار قاريونس القديم مع رفاقه. صار المطار لاحقاً أرضاً فضاء تتجمع فيه طيور القطا ويتعلم شباب بنغازي قيادة السيارات هناك ويقضون بعض الأوقات بعيداً عن الأعين مع الكؤوس وبعضهن من اللواتي مال عليهن الزمن بثقله الرهيب.. ثم أصبح المطار والأرض الفضاء مدينة جامعية على مد العين. 

مثل أبناء بنغازي في بنغازي كانت حياة مفتاح بومدين الذي صار عبدالفتاح في الحجاز كفاحاً ومشقة ومعاناة وحفراً بالأظافر في الصخور الصلدة.. بل وليبيا كلها. نفس الظروف: الحرب والمكابدة والصبر. ومع ذلك لم تقهره تلك الظروف أو الصعاب. كانت المواجهة المستمرة بشجاعة.. وكان مضاء العزم الانطلاق من جديد. حين وصل إلى جدة التي وجدها على البحر تشبه بنغازي برطوبتها ورائحة أسماكها ودروبها القديمة. الفارق في اللون فقط. هذه على الأحمر وتلك على الأبيض. عمل في الجمارك ومنح الجنسية السعودية عام 1947 بموافقة مباشرة من الملك عبدالعزيز، وهناك أيضاً في جدة وجد طريقه متاحاً نحو بعض المدارس ونال تعليماً مكنه من المعرفة والإلمام بالأمور والوعي.. لكنه ثقف نفسه ذاتياً. الكتب كانت من أعز رفاقه. يقرأ بنهم.. يقترب من المصادر ويبحث ويعانق الحروف والكلمات بعد لحظات الشغل المرهقة والتعامل مع البضائع والواردات والسجلات والأرقام. 

كل هذه التجربة الناضجة جعلت الحصاد جيداً فقد صار عبدالفتاح بومدين في مرحلة من تلك الأيام من أعلام الثقافة والأدب وقامة فكرية مهمة في السعودية.. هذا الليبعودي (الليبي السعودي).. اشتغل مصححاً في صحيفة أم القرى وقضى لياليه وسط المطابع ورائحة الأحبار وأصدر أول كتبه أمواج وأثباج ثم أسس مجلة (الرائد). كانت مجلة أدبية توقفت عن الصدور عام 1964. ونشر فيها مقالات وقصائد لأبناء وطنه الأصلي.. ليبيا. قصائد لرفيق شاعر الوطن وقصصاً ليوسف الدلنسي ومناقشات لغيرهما ثم أصدر مجلة الأضواء إضافة إلى توليه مسؤولية العدد الأسبوعي من صحيفة عكاظ. أضحى الليبعودي جزءاً رئيساً من ملامح وجوانب الصحافة وتاريخها هناك. لم يتأخر في العطاء بعرقه النبيل وجهده المخلص في تطور تلك البلاد. 

المتنبي وطه حسين كانا في مقدمة اهتمامات عبدالفتاح. شغف بهما. تعلق بشعر الأول وفكر الثاني. تأثر بهما صدى ماضياً وصوتاً حاضراً وعندما زار طه حسين الحجاز عام 1955 التقاه وتحدث معه طويلاً.. وافتخر كثيراً بلقائه بالعميد الضرير واعتبره فرصة ثمينة من فرص العمر الطيبة. 

لم تهدأ حركة هذا الليبي السعودي في الأعوام التاليات. اتسعت تجربته وزاد عطاؤه الفكري والثقافي المهمين فأسس النادي الأدبي في جدة وترأسه وأشرف على إصدار منشوراته وإقامة أنشطته المختلفة. ظل النادي نقطة مضيئة في الحياة الأدبية السعودية بفضل هذا الليبي الذي قدم أمثلة ممتازة في النجاح الإنساني. عاد إلى بنغازي.. مدينته عام 1965 وعمل بالسفارة السعودية التي كان مقرها بالفويهات. تغيرت المدينة. كبرت. معالم جديدة وضواح وعوائد بترول وصحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون وأصدقاء وأهل وذكريات. من عام 1965 إلى 1969. ونشر مقالاته ودراساته في صحف برقة الجديدة والزمان والحقيقة. وتواصل مع جيله من الأدباء والمهتمين بالثقافة. صهره محمد عيسى الكاديكي وعلي الساحلي وأحمد الترهوني وإبراهيم الهوني وعلي صفي الدين السنوسي والشاعر السعودي يحيى توفيق الذى كان يقيم في بنغازي تلك الأيام صاحب القصيدة الشهيرة سمراء التي نظمها في بنغازي وتغنت بها هيام يونس وغيرهم. أذكر أنه ناقش على صفحات الحقيقة مقالة (أعطنا تجربة) لخليفة الفاخري عام 1968. ناقشها بموضوعية ومسؤولية فكرية مصحوبة بالود. 

عام 1969 عاد إلى جدة بعد نهاية عمله الدبلوماسي وواصل نشاطه الفكري.

القذافي حاول معه كثيراً للعودة. دعاه إلى الحضور وتقلد بعض المهام والمشاركة في ندوات ومؤتمرات. لكن ابن الرويسات كان شديد المراس. لم يضعف. لم يهتم بتلك الدعوات وضرب عنها صفحاً.. كانت لا تروقه. كانت رسالته الفكر والأدب. الحرف والكلمة. كتب مؤلفات وإضاءات سيبقى ذكرها مدى الزمن أكثر من أي شيء آخر. 
عبدالفتاح بومدين.. الصبي والشاب البركاوي أضحت له قيمة ومكانة رفيعة.. في بلاد أخرى.. بالكفاح الشخصي والاجتهاد والتثقيف والتمكن من العطاء للآخرين دون تزلف أو وصولية وفرض وجوده واحترام نفسه.. صار ابن الرويسات علماً من أعلام تلك الربوع ويشار إليه بالتقدير والاحترام. 

عبدالفتاح بومدين تجربة طموح. حكاية نجاح ليبية سعودية بعيدة عن أية تأثيرات أخرى. إنها الفكر والعقل حين يتقدم وينهض وتسقط عوامل التحجر والتخلف والانغلاق. تجربة الكلمة تظل أقوى من المغريات والسياسة.