Atwasat

الجيش وشَبَههُ

نورالدين خليفة النمر الأحد 27 يناير 2019, 11:20 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يتجلى الجيش في الوعي المصري الحديث بدلالة محدّدة: فهو مؤسسة قتالية محترفة دشنها في مشروع بناء الدولة الحديثة باعتماد مؤسسها الانكشاري الألباني محمد علي، منذ 1815 على المصريين من أبناء الفلاحين لبناء مؤسسة الجيش، الذي أثبت وجوده فى ميادين قتال مُتعددة، بمعاركه فى الجزيرة العربية، والسودان، وشبه جزيرة المورة بـ: اليونان . بل شارك الجيش إبّان حُكم الخديوي إسماعيل باسم الأورطة المصرية ـ السودانية في حرب استقلال المكسيك 1863 التي أخدت منحى الحرب الأهلية منحازة لصفّ الإمبراطور ماكسميليان الأوّل ـ المدعوم من فرنسا ـ ضد الثورة الوطنية التي قامت ضده. علماء اجتماع كأنور عبدالملك والسيّد يسين وسعد الدين إبراهيم أكّدوا في كتاباتهم على مصرية الجيش ووطنيته التي لم تسمح له أن يكون قوة قهر واستبداد فى يد أي من حُكامه، وحالت بينه وبين أن يفتح نيران أسلحته أبداً على شعبه. وبالعكس، كان ذلك الجيش منذ أحمد عُرابى، القرن 19 وحتى اليوم مُنحازاً للمطالب الشعبية. فهو جيش مصر المتفق عليه في الضمير المصري الذي يعبّر عنه الكتاب والساسة كهرم من أهرامات مصر في انتصاراته وهزائمه، ومصنع للساسة منذ ثورة 1952، وعامل مهم في الاقتصاد والتنمية بعد 1978 باتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وآخر دور سياسي وطني لعبه في الثورة الشعبية يناير 2011 التي أزاحت النظام المصري في سلسلة التغييرات التي سمّيت بثورات الربيع العربي

هذه الرؤية المعيارية للجيش، يبدو أنها مصدر ماكتبه الصحفي المصري سليمان جودة المنكفيء على مصريته في صحيفة "المصري اليوم" المضطر في صحيفة الشرق الأوسط أن يكتب عن قضايا ليس له إلمام بها كالقضية الليبية. فينبري متبنيّاً مُدّعى المجموعة الانفصالية البرقاوية في البرلمان المُعطل نفسه عن العمل في طبرق لتلبية أطماعها في تمديد الفترة الانتقالية الفوضوية. مبرّرا اتهامها المبعوث الدولي لليبيا بالقفز على ما أدعوه حقائق أربع في بيانه عن العمليات التي يخوضها مُسمى الجيش الوطني الليبي، ضد مُسمى الجماعات المسلحة في مناطق الجنوب، داعيا جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس. الكاتب يتحفظ على التسويّة بين مُسميى الجيش الوطني والجماعات المُسلحة فالجيش نظامي ، وله قيادة أخذت على عاتقها تطهير البلاد من جماعات خارجة عن الدولة، وتحمل السلاح، وترهب الليبيين، وتملأ البلاد بالفوضى.

نتفّق مع الكاتب في توصيفه لما أسماه بالجماعات المسلحة وإن كان لم يحدّدها، ولكن نأخذ عليه وصفه لمسمى الجيش الليبي الذي ينحصر في برقة بالنظامي. كل ما هو موجود في ليبيا منذ عام 2011 وحتى الآن تشكيلات عسكرية في برقة و في طرابلس والجنوب، من بقايا جيش تم تفكيكه قبل الثورة بحرب تشاد وإزاحته بما سمته الفوضويات الجماهيرية بالمؤسسة العسكرية التقليدية بإعلان قيام الشعب المسلّح، وممن تبقى من ثوار 17 فبراير الذين مازالوا يحملون السلاح بعد الإطاحة بالنظام والذين اندرج جلّهم في تنظيمات إسلاموية، و ممن تم الاستقواء بهم بعد ذلك من قبل التشكيلات المسلحة، شرقا و غربا، كالجماعات الجهادية السلفية في الشرق الليبي المثيلة لأختها في تشكيل الميليشيات المهيمنة اليوم على طرابلس، وشباب الأحياء، و أولياءِ الدم في برقة، ومرتزقةِ مرتباتٍ ومكافآت ليبيين وأجانب أبرزها قوات المعارضة التشادية والسودانية.
كما يأخذ الكاتب في مقاله بالشرق الأوسط على المندوب الأممي في بيانه عدم الآشارة إلى توّجه قائد مُسمّى الجيش الليبي مؤخراً إلى معالجة المسألة الأمنية كونها على رأس القضايا الملحة التي يحتاج الجنوب الليبي إلى معالجتها.
القائد العسكري الفريق علي كنة الذي ينتمي إلى قبيلة الطوارق (تينالكم) وخريج الكلية ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ عام 1967 والذيﺷﺎﺭﻙ أسوة بقائد مُسمى الجيش في شرق ليبيا في ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﻮﺣﺪﻭﻳﻴﻦ ﺍلأﺣﺮﺍﺭ التي أطاحت بالنظام الملكي عام 1969وتولى عديد المهام العسكرية والأمنية في الجنوب، بل شارك في استرداد شريط أوزو عام 1989من القوات التشادية، كما تولى أمانة العدل (الداخلية) على مستوى ليبيا، حدّد التحديات التي تواجه الجنوب الليبي في الاختلاف السياسي بين الشرق والغرب الليبيين، ونقل صراعاتهما إلى الجنوب، فالصراعات العسكرية والسياسية أثرت على الجنوب الذي أصبح تائهاً، فالمؤسسة العسكرية ممزقة في الجنوب، إذ يتبع جزء منها الشرق والآخر يتبع الغرب، كما أصبحت الأجهزة الأمنية بالتالي منقسمة.
ثورة 17 فبراير 2011 أثبتت للعالم بما لايدعو إلى الشك اختفاء الصورة الموهومة للجيش الليبي ، الأسطورة التي أنفقت فيها أموال النفط الطائلة في العشرية السبعينية ونصف الثمانينية من القرن الـ 20 وأن نظرية الشعب المُسلّح قضت قضاءً مبرماً على مؤسسة الجيش الليبي التي بُنيت بعرق وجهد دولة الاستقلال 1952 ـ 1969 بأن كرّست استبدال الجيش بالكتائب، ومهدّت مع إعلان التحرير من الدكتاتورية لإعادة برمجة الكتائب في صورة الميليشيات بتنوعاتها التي أفرزت قليلها تضحية الحرب والمواجهة التي حسمها تدخل قوات الناتو، وكثيرها أصطنعته غنيمة الحرب وإفساداتها. ومن الإفسادات تخيّلات المغامرة فكيف يتأتى لعاقل أن يُصدّق أن كتائب عسكرية مهلهلة، بسيارات دفع رباعي تتمكن منطلقة من أقصى الشمال الشرقي الليبي بعد يوم من القضاء على بؤرة إرهابية بعملية محكمة أسفرت عن مقتل مؤسس مجلس شورى قبيلة الحساونة (بقرضة الشاطئ) الذي اشتهر في شبكة إرهاب القاعدة بـ "أبو طلحة الليبي " أحد قيادات الجماعة الليبية المقاتلة الذي في 2013 غادر إلى سوريا وكُلف هناك بمهام المسؤول الشرعي لكتيبة المهاجرين المؤلفة من عناصر أجنبية جهادية قاتلت ضد النظام السوري وأسس برفقة الكثيرين جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة، كما أعلن عام 2014 مقتله في مواجهات مع الجيش العراقي وسط البلاد إلا أن ظهوره مجددا بجنوب ليبيا فند ما أعلن عنه العراقيون. أغلب الاحتمالات أن قوة آفريكوم لجأت عكس ضرباتها السابقة.. أولا إبعاد الأنظار عن القوة العسكرية المحلية التي ساعدتها في الوصول إليه في بيته وفي معقله بقبيلة الحساونة التي لها أهميتها في التركيبة القبلية بالجنوب الليبي. وثانيا توقّي ضربة انتقامية فالعناصر الذين تمت تصفيتهم في العملية مرتبطون بقيادات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي.