Atwasat

نهر الليثي المنسي المُنسي

حمد الرقعي الخميس 03 يناير 2019, 07:32 مساء
حمد الرقعي

في مدينة يوسبريدس التي هي جزء من مدينة بنغازي اليوم، يجري نهر منذ آلاف السنين، و ما يزال كذلك حتى يومنا هذا. عُرف هذا النهر في الأساطير الإغريقية باسم نهر الليثي lethe وهي كلمة يونانية تعني النسيان، و على اسم هذا النهر سميت منطقة في بنغازي، يسكنها عدد غير هين من الناس، لم يُفكر أغلبهم في هذا النهر يوماً. لك أن تسألهم عن أي شيء، ولك أن تطلب منهم أي شيء، فأهل بنغازي بشكل عام يتسمون بالكرم والترحاب بالضيف، بل إنك تستطيع العيش بينهم، وستجد أن اندماجك ضمن مجتمع هذه المدينة أمر سهل، و كم من قادم من مختلف المدن و الدول، وجد له مستقراً في هذه المدينة، عايش مجتمع المدينة فصار منه، لأنه من المعروف عن هذه المدينة أنها تفتح قلبها للجميع، حتى أطلق عليها أهلها "رباية الذايح" أي أنها تحتضن القادم إليها ممن لا مأوى له. لكن أبداً لا تحاول أن تسأل أحدا منهم عن هذا النهر، فلن يفيدك أغلبهم بشيء عنه.

في الناحية الجنوبية الشرقية من مدينة بنغازي، بمنطقة بوعطني تجد الأشجار ملتفة تشابك إحداها الأخرى وكأنها تخفي عن الأنظار الكهف المندس بينها منذ أمد بعيد، قبل ميلاد معظم هذه الأشجار، و قبل ميلاد المسيح، وربما قبل خلق الخليقة كلها. يمتد هذا الكهف في أعماق الأرض لخمسين متراً، تتموقع في قاعه بحيرة جوفية ساكنة يمتد منها نهر لا نهاية له هو نهر الليثون.

تمتع هذا النهر بقدسية خاصة عند الإغريق، إذ اعتبرته أساطيرهم أحد أنهار العالم السفلي الخمسة، يجب أن تمر به الأرواح بعد الموت لتتطهر وتنسى آلامها وآثامها، من شرب منه ينسَ كل شيء مؤلم مر به في حياته، فهو نهر النسيان عندهم، وهو وجهة أرواح موتاهم، تقصد هذا النهر لتتطهر من ذنوب صاحبها، بنسيان آلامهم في الحياة. ويقال في الأساطير أن الليثون هو المكان الذي صارع عنده هرقل الشيطان.
و كانت تحيط به في الزمن المغرق في قدمه، حدائق هيسبريدس، ومنها "حديقة التفاح الذهبي" التي أهداها "كي" للمؤلهة هيرا بمناسبة زواجها من زيوس كبير الآلهة عند اليونانيين، و كانت ثلاث من الحوريات يقمن بحراسة هذه الحدائق صحبة لادون التنين العظيم الذي يملك سبعين ألف رأس، وفي كل رأس سبعون عين وسبعمائة ناب، وينفث ناراً طولها ألف ذراع، تذيب صلب الحديد وتخترق الجبال.
يمتاز الكهف بارتفاع جدرانه، و بداخله ثلاث مغارات، تنتقل من المغارة الأولى لتجد نفسك في المغارة الثانية، وهى ذات قبة عالية تقدر بخمسة عشر متراً، تتصل بالمغارة الثالثة بممر لا يجاوز في ارتفاعه نصف المتر.
في المغارة الثالثة سيحتويك الظلام الذي يلف كل شيء، فيُضفي على الكهف مهابة لا يكاد يغفل عنها أحد. ولكن احذر وأنت داخل هذا الكهف أن تأخذك سنة من النوم، فأساطير الإغريق القديمة تُخبرك بأن الشاب الرقيق العطوف إله النوم هيبنوس ابن نيكس آلهة الليل يعيش في هذا الكهف وينام على فراش ناعم داكن اللون بجانب النهر الذي يجري داخل هذا الكهف، فيجعل كل ما في الكهف باعثاً للنوم. و تزعم الأساطير، أنه كان يهدهد أعتى الآلهة الإغريقية حتى يناموا. وإن نجح في جلب النوم إليك وأنت داخل الكهف، فنم بلا خوف، وانتظر الأحلام التي لا يمكن إلا أن ترِدك، فأنت بمعية هيبنوس والد مورفيس إله الأحلام.
كان قدماء اليونان يؤمنون بأن الأرواح إذا ما فارقت الأجساد، فإنها تنزل في باطن الأرض بدلاً من الصعود إلى السماء وعليها أن تتطهر وتنسي الهموم والأحزان وتتخلص من الشوائب والذنوب، وهذا لا يتم إلا بالمرور بنهر الليثون المقدس والاغتسال في مياهه والشرب منه لما له من قوة خفية تساعد على النسيان. وقد سجل ملك فرعون مصر بطليموس السابع عندما غزا المنطقة أن جنوده وجدوا نبات الخرشوف في ضواحي مدينة بنغازي واصطادوا الأسماك من نهر النسيان. وقال خبير الآثار البروفسور قوود تشايلر أن اليونانيين القدماء كانوا يحجون إلى الموقع ويتبركون به، وكان ملهماً للشعراء، فما كان لهم إلا أن يفتنوا بالليثون، وما كان لنهر الليثون إلا ليلهمهم. معتمدين اعتقاد الأولين بأن الأرواح تشرب من الليثون لنسيان حياتها السابقة قبيل خلقها من جديد. فكان في هذا الاعتقاد مدعاة لأن يحفل الأدب الإنساني بالاستعمال الرمزي لنهر الليثي، فورد ذكره في الكوميديا الإلهية لدانتي، وفي قصيدة عن الكآبة لجون كيتس، وعمل دون جوان للورد بايرون، وقصيدة النائم لإدغار آلان بو، كما أن لبودلير قصيدة تحمل اسم هذا النهر. أما شكسبير فقد خصه بالذكر في ثلاث من كبرى مسرحياته. وفي الأدب الحديث نجده حاضراً بقوة في مسرحية (الجمرة) للكاتب الآيرلندي صموئيل بيكيت.
كتب لوقيانوس السميساطي على لسان الفيلسوف ديوجين في مؤلفه الطريف (مسامرات الأموات)، وهو رحلة متخيَّلة إلى العالم الآخر على طراز (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري أو (الكوميديا الإلهية) لدانتي، كتب أن على الإسكندر المقدوني أن يشرب من نهر "ليثي" إذا أراد نسيان الأحزان التي سببتها له فلسفة معلمه أرسطو في حياته.
وعن ذات النهر قال الشاعر الروماني أوفيد:
ذراع الليثون ينساب في هدوء... تعلوه الصخرة السفلية من خنادق القصر السحري... تتدحرج من تحته الحصباء... يدعو خريره العذب النوم... ومن خلاله ينحني نبات الخشخاش.
أما الشاعر الإيطالي الكبير ”دانتي“ فيقول في الكوميديا الإلهية قسم المطهر:
هناك أسفل مكان لا يعرف بالنظر ولكنه بخرير جدول يهبط هنا خلال فتحة الصخرة تحته بالجريان دخلت ودليلي ذلك الطريف الحق.