Atwasat

(شوفان كويكرز)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 31 ديسمبر 2018, 03:00 مساء
محمد عقيلة العمامي

التصقت في ذهني، ولعلكم مثلي، بضعة كليمات ليست عربية، إما لأنها ماركة سلعة غربية، أو أنني سمعتها في فيلم أجنبي، أو في أغنية رددتها طويلا من دون أن أعرف معناها؛ كلمة (كويكرز) وصورة ذلك المعتمر برنيطة غريبة التصميم، بنظراته المستكينة مع تلك البسمة الخفية المرسومة على علبة الشوفان الدائرية الانيقة، التي لا أذكر متى رأيتها أول مرة، ولا أدري ما بها، وإن كنت أعرف أنها تؤكل، لأنني أشاهدها مع علب الأكل في محلات (السوبر ماركت). ولكنني لم أذقها إلّا منذ أعوام قليلة عندما شاهدت إحدى بناتي تسحب منها عدة ملاعق، لم تكن في شكلها بعيدة عن (اللقْطامة) وهي، لمن لا يعرفها، تلك التي يمنعها الغربال من السقوط مع الطحين، والتي كانت عجائزنا يحتفظن بها في (قدقود) مع كسر الخبز وما يفيض من الطبق الذي كنا نحمل فيه خبزنا اليومي إلى (كوشة سي الصالحين). 

هذا هو (الشوفان) وهو إفطار جيد، مفيد، غني بالأليف، يغلى مع الحليب ويؤكل بالملعقة. وحتى بعدما عرفت الشوفان ظلت صورة السيد المرسومة على العلبة لغزا بالنسبة لي، والحقيقة أنني رجحتها لصاحب الوصفة، أو أنه صاحب مزرعة الشوفان ولكن دهشتي كانت كبيرة حين رأيت صورة تشبهه كثيرا، تتصدر مقالا عنوانه (وليم بن) رائد الديمقراطية، وأن أمريكا استفادت من آرائه وانتفعت منها نفعا عظيما، وأنه مؤسس ولاية بنسلفانيا، وأنه ابن كلب البحر، الإسم الذي التصق به لكونه أميرال بحرشرس! 
(Quakers) وتعني (الأصدقاء) هم في الواقع أعضاء في حركة دينية مسيحية تاريخية، معروفة رسميا باسم الجمعية الدينية للأصدقاء الكنيسة، أو جمعية الأصدقاء للأصدقاء الكنيسة. وهم جميعا أعضاء في حركات دينية مختلفة الكنائس، ولكن (الكويكرز) يتفقون في العموم على أنه في أعماق الإنسان قدرة تمكنه من الوصول إلى "نوره الداخلي" الذي يؤكد له أن "نور الله، أو الله نفسه موجود فيه، بل في الواقع في كل مخلوقاته".

والده كان ثريا للغاية ولكنه من رجال تلك الحقبة الاستبدادية، في تاريخ بريطانيا، التي لا تتردد في الزج بالناس في السجون، بمجرد أن يجاهروا بمعتقد يتناقض مع معتقداتهم. ولكن (وليم بن) كان صاحب فكر ورأي دافع عنه ولم يثنه السجن عن قناعاته، على الرغم من أنه سجن مرات عديدة، ولم يتخلَّ أبدا عن آرائه الدينية والسياسية، وكتب في السجن أفضل كتبه وذاع صيته وأراؤه ليس لدى مجموع (الكويكرز) فقط ولكن لدى محبي الحرية كافة. وكان بالإضافة إلى مكانته الاجتماعية وحدته في الحق، واسع التأثير لدرجة أنه كثيرا ما أنقذ عديدين من سجن برج لندن سيء السمعة. 

لقد شهدت محكمة (أولد بيلي) الشهيرة حدثا شهيرا نتج عنه ذلك النصب الذي وضع بعد قرون تخليدا وتذكارا لمحاكمة كبرى كانت "في سبيل الحرية". ولقد ذاع صيت (وليم بن) في الجزر البريطانية وفرنسا وهولندا وألمانيا، والتفت حول مبادئه جماهير غفيرة أحست بصدق وقوة دعوته إلى الحرية، ولما عاد إلى بريطانيا واجتمع ذات يوم بأتباعه وكانوا كثيرين، طوقهم العسكر فما كان منه إلاّ أن صلى بأتباعه في الشارع، فقادوهم إلى المحاكمة وبعد أن قام بجهد وحسن إقناع لم تستطع المحكة إصدار حكم بحقه. ولكن لم يعد بمقدوره البقاء في بريطانيا، فرحل إلى أمريكا باعتبارها مستعمرة بريطانية. 

كان (وليم بيلي) قد ورث من والده مبلغا قدره 16000 جنيه استرليني دينا لدى الملك شارل الثاني، فالتمس منه أن يدفعه له كأرض في العالم الجديد، فوجد الملك، في رحيله بعيدا عنه وعن بريطانيا كلها، خلاصا له من دينه، وأيضا من مشاكل هذا الثري السياسي المثقف، فأعطاه أرضا هي نواة بنسلفانيا، واستقبله سكان مستعمرة (نيوكاسل) يحملون "قدحا فيه قطرات من ماء النهر، وحفنة من التراب، وعود أخضر" وذاك رمز يعني أن النهر والأرض والغابات أصبحت له.. غابات بن، أو بن سلفانيا مثلما أصر سكان المستعمرة على تسميتها، وأصبحت فيلادلفيا المدينة الكبرى الثالثة في أمريكا. وكان لابد أن تصل إلى هذا المستوى فلقد كان سباقا في القيام بخطوة لم يقم بها، من قبل، أحد غيره، وهي أنه أبرأ ذمته بدفعه إلى الملاك السابقين من الهنود الحمر ثمن أرضهم كاملة، ثم اشتراها منهم مرة ثانية، وذهب بنفسه إلى قبائل مصبوغي الوجوه، ليعيشوا مع (الكويكرس) في وئام لم تشهد أمريكا مثله. 

لقد وضع (وليم بن) بنفسه وثيقة دستور بنسلفانيا، اكد فيها على حرية المعتقد وصار لكل مواطن صوت لا يرتبط بكنيسة محددة. وتقول المصادر أنه لم يقنط أبدا من الإنسانية وقدرتها على حكم نفسها بنفسها، العجيب أن (وليم بن) مات قبل قيام الولايات المتحدة الأمريكية بسبعين عاما ومع ذلك هو من اقترح نظام قيامها، ولم يتوقف عندها فقط بل تجاوزها إلى وضع أساس مشروع عصبة الأمم. ولقد قامت بنسلفانيا أكثر الولايات المتحدة الأمريكية رخاء على ثروة هذا الرجل المادية والفكرية. إن إيمانه بالمبادئ الديمقراطية هي التي شملها إعلان الاستقلال الأمريكي والدستور. ولم يخطئ المؤرخون عندما وصفوه، بأنه أعظم مؤسسي الأمة الامريكية!.

هذا هو صاحب سلعة الشوفان (الكويكرز) التي لم تعد في نظري مجرد غلة مفيدة تنفخ البطن وتكثر من الغازات، التي تنقض الوضوء.