Atwasat

واهب الكيان ومبتزّه

نورالدين خليفة النمر الأحد 30 ديسمبر 2018, 12:56 مساء
نورالدين خليفة النمر

نقف نهاية كل عام،على شُرفة العام القادم نتطلع لما هو آتٍ فقط، يحف بنا القلق مما سيكون، والانهمام بالذي سيحدث دون التفكير بما كان أو بما هو كائن أو حادث الآن، ودون التساؤل عن الما قبل، والتفحص في بادئة المابعد مما يجعلنا ندور في دوامة من التساؤلات أبسطها لماذا المابعد؟ وكيف سيكون شكله بعيداً ومختلفاَ عن الما قبل؟ خصوصاً وأننا نعلم أن هذه البادئة تعني معاً نهاية شيء وبداية شيء جديد أو المرّتب له كهبة ليكون انفراجة مستقبل.

شكلت الهبة إحدى القضايا الكبرى التي شغلت أبحاث حقل الأنثروبولوجيا. وكان مارسيل موس من بين الأوائل الذين اهتموا بفعاليتها داخل المجتمعات الإنسانية. فيحدّدها في ترابط لالتزامات ثلاثة: هي العطاء وقبول العطاء والرد عليه بإعادة الغرض نفسه أو ما يوازيه أو ما هو أثمن منه. وهذه الالتزامات المتحدة والمترابطة تدفع الهبات، ماديات ومعنويات، إن عاجلا أو آجلا إلى العودة إلى نقطة بدايتها. وها هو حدث الاستقلال الليبي يُعاد تقريباً للدولة المستعمرة التي استبعدت من المشاركة حتى رمزياً في منحه قبل 67 سنة.

فزيارة رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي الأحد 23 ديسمبر 2018. الخاطفة لطرابلس وبنغازي يوما قبل ليلة عيد الميلاد، التي منحت فيها ليبيا 1951 استقلالها، تأتي في سياق رمزيات استعادة الهبة المتمثلة في دعم إيطالى لحكومة الوفاق وجهود المصالحة الوطنية وللمسار الديمقراطي، وقد لعبت الأجهزة الأمنية الإيطالية التي تمت إعادة تشكيلها دورًا رئيسيًّا في الإعداد لهذه المهمة الجديدة للرئيس كونتي التي بدأت من طرابلس التي وصفها بأنها تعيش حياة طبيعية. فيقضّ مضجعها بعد يومين الحادث الإرهابي، الذي طال وزارة الخارجية .فتمرّر من وراءه رسالة إعاقة بغرض الابتزاز من قبل تركيا المتخلي العثماني الماقبل استعماري، الذي يعيد موضعة نفسه عبر التطرفات المتأسلمة التي تم استبعادها من خطة باليرمو لإعادة موضعتها في التسوية بين الطرفين المتقاسمين أزمة ليبيا وحلّها. وفي المقلب الثاني ابتزاز روسي يتكئ على أطروحة قبلية المجتمع الليبي المهترئة، مقحماً موقف قبائل معيّنة في أجزاء معينة بدون تسمية ولاتحديد ثم تصنيفها بالموالية للدكتاتورية المنهارة.

رافقت الإحباطات، تذكارات عيد الاستقلال الليبي منذ عام 2012 لتصدق عليه النبوءة التي لاطالما ردّدها في أخريات أعياده الملك إدريس السنوسي بأن "المحافظة على الاستقلال أصعب من نيلة" سهولة النيل وصعوبة المحافظة هما ما يصوّران في الأذهان بأن الاستقلال الليبي هبة يسري عليها مايسري على الهدايا الممنوحة, فالأشياء الموهوبة تمتلك روحا تدفعها في النهاية للعودة إلى الواهب البديل،الحلفاء الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية، على الواهب الأصيل الدولة الإيطالية المُستعمِرة لليبيا التي أرست جزءاً كبيراً من القاعدة المادية التي جعلت من هذا الحدث الاستقلالي واقعاً ملموساً.

إعادة الترتيب للواهبين يحيلنا إلى رؤىة الأنتروبولوجي مارسل موس بأن الأشياء الممنوحة ترتبط بالأشخاص المانحين، بل يمكن اعتبارها امتدادا لهم. وتنشأ نتيجة لذلك علاقة مزدوجة بين المانح والمتلقي: علاقة تكافل وتضامن لأن الأول يتقاسم ما يملكه مع الثاني، وعلاقة تفوق وتمايز لأن المتلقي يصبح مدينا للواهب حتى يمنح الأول من جانبه هبة في وقت لاحق. وقد تنشأ تراتبية بين الواهب والموهوب له حتى وإن كانت العلاقات متكافئة قبل ذلك. أما إذا كانت التراتبية قائمة، فيأتي الوهب كتعبير عنها وتكريس لها. وبصيغة أخرى تخلق الهبة في ذات الوقت تقاربا وتباعدا بين الواهب والموهوب له، فهي تجمع متضادين: السخاء والإكراه.

هذه النتيجة تُخلص الباحث في تاريخ نشوء دولة ليبيا الحديثة ،إلى اعتبار حدث الاستقلال الليبي 1951 محض صدفة تاريخية. فالدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لم تصل إلى حل في موضوعها المتعلّق بمصير المستعمرة الإيطالية السابقة ليبيا، فكان الاتفاق على إحالة قضيتها إلى الأمم المتحدة، المنظمة الدولية الوليدة، للوصول عبرها إلى حل توافقي فيما بينها لتقرُّر مصيرها. فالاستقلال لم يأت تقديرا للحرب الجهادية ضد الهجمة الاستعمارية الإيطالية،ولا تتويجا لحرب تحرير وطنية، ولا نتيجة لثورة شعبية، ولا تفاوض مع زعامة نضال سياسية، ولا مكافأة على المساهمة السنوسية بجانب الحلفاء في الحرب العالمية، فالاستقلال بالأحرى هو بمثابة الهبة الدولية سقطت على الليبيين، فقبلوها.

المساهمة الليبية شعباً ومايمكن تسميته نخباً، لم تكن سوى ذريعة لتقديم الهبة. في صدفة الحدث الاستقلالي 1951، كما هو الأمر في صدفة الثورة 2011، المصورة كهبة قوات الناتو التي غاب فيها الشعب، والنخبة السياسية، لتتصدّر المشهد الثوري وتقوده إلى اليوم الجماعات المغمورة بكل تصنيفاتها التي ألمحنا إليها في مقالة "تحكمية المغمور".

تصدر اليوم أصواتُ خافتة، باستعادة نخبة سياسية غير موجودة، إن لم تكن وهمية تتجاوز بها الثورة الليبية مجهوليتها، وإزاحة الجماعة المغمورة التي تحكمت في إدارة مسارها إلى دروب الانقسامية وإهدار الإمكانية، بله الفساد في مسارات عدمية وصلت بها إلى النفق المسدود. من تمكن تسميتهم بالمثقفين الليبيين المشتتين هم الأجدر بدل التماهي في المابعديات والمجهوليات بالتمسك بزمام التغيير، تغيير النفس والواقع، والدخول في فعل الاقتدار على العمل، والتموضع في المتن بدل الركون إلى الهامش. فاستشراف المابعد، ليس هو سمو بالإنسان إلى التعالي عن الواقع، بل هو محاولة شغل العقل الإنساني عن فعل التفكير ومنعه من وضع الحلول المناسبة للمشكلات المطروحة من جهة ومحاولة توسيع هوة التوتر الذي تعيشه الذات في علاقتها بماضيها من جهة وعلاقتها بالآخر الغربي الذي ماتنفك الأقدار على جعله الواهب لها كيانها.