Atwasat

ضياع الثورة في الثأر

سالم العوكلي الأربعاء 26 ديسمبر 2018, 10:59 صباحا
سالم العوكلي

هكذا بدا للعيان أن الليبيين، أو معظمهم، يبدءون أول ثورة شعبية في تاريخهم ضد الاستبداد. بدأت إرهاصات هذا الحراك عبر الشباب المثقف والمتفتح في الفيس بوك، بعد الثورتين في تونس ومصر، وبعد أن رأوا علمين يرفرفان في أعلى سارية في ميدان التحرير، علم مصر وعلم الفيس بوك، أرادوها ثورة سلمية على غرار ثورتي الجارتين، لكن هذا الحراك تسلح منذ اليوم الأول لثورة الفيس بوك، وبدل أن تغدو ثورة فيس بوك أصبحت ثورة أربعطاش ونص، وتحويل الثورة من حراك سلمي في الميادين إلى مواجهة مسلحة في الجبهات يعود إلى عدة أسباب، منها، طبيعة النظام الشمولي الذي طالما صرح قائده بأنه استولى على السلطة بالقوة وعلى من يرغب الحصول عليها أن يأخذها بالقوة، وطبيعة المجتمع الذي يشكل العنف ردود فعله الطبيعية في أية حالة تصادم، إضافة إلى تغلغل الجماعات الإسلامية التي تعتبر الجهاد المسلح وسيلتها لمواجهة الآخر داخل هذا الحراك والانحراف به تجاه العسكرة.

وبدأ الخطاب العام يتجه بها صوب كونها ثورة دينية، بدل أن تكون ثورة لها أهداف محددة، ثورة دينية مقادة بمصطلح "الجهاد" لا بالنضال السياسي. ثورة دينية في مجتمع كله مسلم وجله متدين، وكان الطرفان يُكبّرون ويعتبرون قتلاهما شهداء. هكذا سُرقت الثورة من أهدافها الأصلية منذ اليوم الأول، وهكذا تحولت فيما بعد إلى هدف واحد وهو الثأر من القذافي وأولاده وأزلامه، وبمجرد نهاية القذافي ونظامه عم الإحساس بأن الهدف تحقق، متمثلا في الثأر والثأر فقط، لذلك كان من الطبيعي أن المنتقمين الذين حلوا محل النظام، وتقلدوا السلطة، أن يمارسوا نفس آليات النظام فيما يخص القمع وكبت الحريات، والكذب على الناس، والفساد، وانتهاك حقوق الإنسان. وتحولت الثورة إلى حالة هستيرية من الثأر، ورغم أن الثأر مثل عادة سلوكا فرديا، إلا أنه هذه المرة تحول إلى سلوك جماعي، بل وأنشئت له مؤسساته، من ميليشيات تتلقى رواتبها من النظام الجديد، ومؤتمر وطني تجلت أعلى درجات رغبته في الثأر في إصدار قانون أحمق اسمه قانون العزل السياسي، إضافة إلى لجان وهيآت ودوائر كلها اختُرِعت لإشباع هذا النهم الانتقامي.

وما أبشع الثأر حين يكون جماعيا وله مؤسساته وميزانيته، فالثأر الجماعي ارتبط في التاريخ بالفاشية، (الفاشية فقط هي التي وضعت شعبا بأكمله في المعتقلات، والنازية هي التي ابتكرت محارق البشر، وفاشية القذافي هي التي صفت حساباتها بشكل جماعي مع النخب أولا ثم مع الشعب برمته)، والغريب هو هذا الانخراط الجماعي في ملحمة الثأر رغم أن وجداننا الديني ضد هذا المفهوم، ورغم أن تراثنا الاجتماعي لم يعرف الثأر إلا كسلوك فردي، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يثأر من أول أسرى في صدامه مع الكفار، بل أرسى فدية جديدة في تاريخ البشر، كل من يعلم عشرة من المؤمنين يطلق سراحه، مرسيا بهذا السلوك نوعا من العقاب الإنساني سمي فيما بعد عقوبة (العمل الاجتماعي) فمن أين جاءت هذه الرغبة الهستيرية التي حولت أعظم ثورة في تاريخنا إلى مجرد حالة ثأر جماعية؟.

لا شك أن للحكم الشمولي الفاشي لمدة أربعة عقود دورا في هذا. تلك العقود التي استطاعت أن تنتج وتكرس هذه الثقافة، (ثقافة الانتقام، الفساد، انتهاك حقوق الإنسان، التلاعب بأحلام الناس، السجون السرية، التصفية، القتل على الهوية، المجازر الجماعية، أيديولوجية الموت،المتاجرة بالدين، العقاب دون محاكمة). هذا ما تركه النظام الفاشي، وهذا ما يستمر فيه من تتلمذوا على هذا النظام، أولئك الذين ابتكروا مفردة الأزلام ليعلقوا عليها كل خيباتهم، مع أن الأزلام الحقيقيين هم من يحملون ثقافة ذلك النظام، سواء أكانوا مضطهدين في سجونه أو قادمين من منافيه، أو ممن واجهوا قواته بالسلاح.

وبذا كان الليبيون أول شعب يقتل مفكره ليطبق أفكاره التي عجز عن تطبيقها طيلة حياته. كتبت في الأعداد الأولى من جريدة ميادين، وفي الأيام الأولى لانتفاضة فبراير، عن ضرورة "إرساء مفهوم أن هذه الثورة من أجل ليبيا ومستقبلها، وليست من أجل القضاء على القذافي ونظامه، ويجب النظر إلى أن القذافي ونظامه مجرد عقبة في سبيل بناء ليبيا التي نحلم بها".

لو نظرنا إلى هذا الحراك بهذا التصور لطبيعة التغيير لتجاوزنا أسلوب الثأر، ولأصبحت 17 فبراير ثورة حقيقية يقودها الوعي، وليس حركة انتقامية تقودها قوى اللاوعي الجماعي. لو كانت عيوننا على ليبيا فقط، لما حدث الانقسام، ولما صدر قانون عزل يقصي نصف الليبيين عن المشاركة، ولما ظهرت النزعات الانفصالية والفيدرالية، ولما كانت ليبيا ساحة للأجندات الدولية والإقليمية، وتقرير مصيرنا رهنا بالمزاج العالمي وبهوى القوى الكبرى ومصالحها. وبالطبع هذا افتراض ليس علميا، لأن الواقع دائما أقوى من الأماني والرغبات، وهذا الواقع لم يأت من فراغ، لكنه حصيلة أربعة عقود من التعبئة والعنف والفساد والتغني بالموت.

أقول أخيرا إذا كان لابد من الثأر، فعلينا أن نثأر من ثقافة الأربعين عاما بتكريس العدالة ودولة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة، ونثأر من عقود من التجهيل المتعمد بتطوير مؤسسات التعليم والإعلام وركزنا على العنصر البشري كرأسمال حقيقي للتقدم والتنافسية. هذا هو الثأر النبيل والوحيد الذي من شأنه أن يجعل ما وصلنا إليه من أهداف حقيقية يستحق هذا الثمن الذي دفعه هذا المجتمع من ضحايا من خيرة أبنائه إبان هيمنة النظام السابق وأثناء الثورة على هذا النظام التي استغرقت 8 أشهر لإسقاطه.

رغم كل ما حدث من تلاعب بأحلام الناس وبانحراف في مسار التغيير إلا أن الوقت لم يفت كي ننتبه إلى أن لا أحد غيرنا يمكنه أن يحقق هذه الأحلام إذا ما تخلصنا من هذه الرغبة الهستيرية في الانتقام التي استمرت جذوتها مشتعلة بين الأطراف المنتصرة، وإذا ما عرفنا في نهاية المطاف أن التنازلات المتبادلة والقدرة على العفو والتسامح هي طريق الأمم إلى السلام كما يخبرنا التاريخ البعيد والقريب.