Atwasat

الفسادُ توأمُ الخوف! 1969- 2019

أحمد الفيتوري الثلاثاء 25 ديسمبر 2018, 11:01 صباحا
أحمد الفيتوري

من الفيلسوف الليبي سونسيوس في قورينا سنة 365م إلى الفيلسوفة هوباتيا في الاسكندرية:
"إني أعيش وسط مصائب وطني، وكوارثه تملؤني بالأحزان، وفي كل يوم أشهد أسلحة الأعداء، وأشهد الناس يذبحون كالقطعان السافلة، وأتنسم هواء فاسدا منبعثا من الجثث، وأتوقع لنفسي أن ألقى نفس المصير الذي يلقاه الكثيرون، إذ كيف يكون عندي أمل، بينما السماء تكدرها أسراب من الطيور الجارحة التي تنتظر فرائسها؟، ومع ذلك، فلا يهم، إني لن أترك هذا المكان: ألست ليبيا؟. هنا ولدت، وهنا أشهد قبور أجدادي النبلاء".
- تاريخ الفلسفة في ليبيا - الجزء الثاني - د. عبد الرحمن بدوي - منشورات الجامعة الليبية - الطبعة الأولي 1971.

1-
العائش في السجن خاصة العسكري منه لا يأتمن لحال ولا يعرف ما سيحصل له وما يحصل عليه، لذا حين سقط علينا أمر إدارة السجن بالسماح لنا: الشراء من الحانوت العسكري التابع للسجن، كان ما حصل كالصاعقة، خاصة وأن بالحانوت ليس غير علب ذات الخمسة كيلو من الحلوى الشامية، اشترينا علبة بجزء من المال الذي أبقاه أهلنا كأمانة عند إدارة السجن، وأردنا أن نُبقي العلبة للحظة حددناها للاحتفال بهذه الصاعقة "الحلوى" فأئتمنا أرجحنا عقلا، وأكبرنا سنا على العلبة.
يوم الاحتفال يوم أردنا أن نُكرم شغفنا وجوعنا، أهين المؤتمن عندما اكتشافنا أنه كاد ينتهي من حلوانا، وأبقى لنا الخيبة المرة.
وكذلك الحقيقة المُرة أن ليبيا عقب انقلاب القذافي سبتمبر 1969م تحولت إلى سجن بمعنى الكلمة، وكل عام يمر يضيق هذا السجن فيعم الخوف، أما زعيم الانقلاب فقد حول هذا السجن إلى مرتع لتجاربه وشطحاته الفكرية وبالتالي انتشر الفساد، وفي بدء عملي صحفيا مطلع سبعينيات القرن الماضي قمت بتحقيق صحفي مع عمال النظافة، وقد كنت أسأل عن حال هؤلاء العمال وعما يواجهونه من عسر في المعاش نتيجة أن المرتب الذي يتقاضون ضئيلٌ ولا يسد حاجاتهم، انزوى بي أحدهم وهمس لي: (الحوتة فاسدة من رأسها) أي أنت تفتش عن الفساد في ذيل السمكة والفساد في رأسها.
حينها لم يكن ممكنا نشر أي نقد يمس النظام حتى أن الصحفي (عوض ابريك) تم سجنه وتوقف من يومها عن الكتابة، لأنه كتب مقالة بعنوان (النخلة العوجاء) منتقدا الدولة التي تُبدد ثروة ليبيا في الخارج، ومنذها لم يجرؤ أحد على الكلام.

2-
الحقيقة الأكثر مرارة أن ليبيا ولنصف قرن تقريبا يُخيم عليها الخوف، ومن لا أمن له من خوف لا أمن له من جوع الذي هو خوف بشكل ما، وخلال هذه المدة عاش الليبيون في ضنك يمكن ملاحظته على البنية التحتية للمدن الليبية، سواء كانت العاصمة أو أي مدينة نائية، أما التوأم الضرورة للخوف فيمكن رصده في العطاءات التي تمنحها الدولة للمشاريع العامة حيث يمكن لأي كان معرفة الفارق الهائل بين التكاليف الحقيقية والتكاليف المرصودة لأي مشروع، أما ميزانية الدولة فإنها ستأخذ في التلاشي حتى تختفي وقد تصدر بعد سنوات، ومع انتشار العسف والقمع في البلاد تنتشر أحاديث الناس الخاصة حول حجم الفساد الذي ينتشر بشكل وبائي وفي صيغ مختلفة حسبما المرحلة.

لقد كانت هذه الأرضية صلبة في بنية دولة العسف التي استمرت لعقود أربعة ونيف دون حسيب ولا رقيب، ولهذا حين سقط النظام لم تسقط الدولة العميقة هذه التي تشكلت في حزبين عضدين أحدهما ينتج الخوف ورديفه ينتج الفساد وكل منهما يستمد وجوده من الآخر.
بعد سقوط القذافي إثر الربيع العربي وثورة فبراير الليبية تحالف هذان الحزبان واستوليا على رأس الدولة: مؤسسات الريع، وعليه تقاسما الريع، ولديمومة هذا الريع تولد الإرهاب وتوأمه المليشيات، وبهذا انشطرت البلاد إلى شظايا مركزها البنك الوطني.
حتى اللحظة حاميها حراميها، حيث الجميع تفتق عن عقل مدبر يسوس أمر البلاد شعاره: شجب الفساد والمفسدين في الأرض، والمطالبة بحلّ المليشيات وهو من يسوسها ومن يحافظ عليها، أي في الأخير هذه القوة التي تنشر الخوف هي منتجة الفساد وبهما تحقق وجودها.

وكما يبدو أن الأفق مسدود للخلاص من الفساد في هذا الحال وفي ما ينتجه من حال، فالظاهر حتى الآن أن الخوف المهيمن لن يتيح أي فرصة للخلاص من رديفه، بل أن ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي ذر رماد في العيون طالما أن الرديف مسكوت عنه، فالخوف يعيث في البلاد فسادا.