Atwasat

الحرية بلا نظام

محمد عقيلة العمامي الإثنين 24 ديسمبر 2018, 10:38 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قال المؤرخ الكبير (ويل دورانت) إنه كان يهتم كثيرا في شبابه بالحرية، ولكن في كهولته أصبح يهتم أكثر بالنظام، فلقد توصل إلى حقيقة راسخة تقول أن الحرية هي نتاج النظام!. فالحرية من دون نظام هي فوضى حقيقية، فلقد ثبت بالدليل القاطع أن المجتمعات المنظمة هي أكثر تمسكا بالحرية، وأنهم لم يتمتعوا حقيقة بها إلَّا بعد أن اعترفوا بحقوق الآخرين، الذين يختلفون معهم، مؤكدين أن حرية المرء تنتهي عند حرية الآخرين؛ وذلك ببساطة يعني أن حريتهم لا تتوفر لهم إلَّا اذا احترموا قناعات شركائهم في الوطن وحقوق الآخرين، وهكذا فإن الآخرين لن يعترفوا بها إلَّا إذا توفرت لهم حرياتهم.

ولقد زادت حرية الفرد، في بعض الدول المتخلفة، درجة لا يعترف معها بحرية الآخرين. وبلغ في الوقت نفسه تنظيم بعض المجتمعات حد التمسك الخاطئ بحقه في الحرية، لدرجة أن المواطن الحر السعيد يبصم بالحضور ويختفي حتى وقت بصمة نهاية الدوام، وحق الممرضة أن تبتسم أو لا تبتسم وقتما تريد، وحق التاجر يبتدئ يومه بقرآن كريم ويستبدل ملصق صلاحية السلعة. يحدث ذلك كله من دون أن ينتبه هذا الإنسان الحر السعيد أنه فقد احترام ومحبة أهله وجيرانه.

والأخطر منذ ذلك هو أن يقول ما يشاء، وقتما يشاء من دون أن ينتبه، سواء بنية حسنة أو سيئة إلى مغبة ما يقوله. المواطن في أي مكان في الدنيا، أصبح بمقدوره أن يعرف، إن أراد، إخبار العالم كله؛ سواء إن فسر له ذلك محلل سياسي أو لم يفسر. الاختلاف في الرأي هو، على نحو ما، سبب من أسباب نشوب الحروب.. والحروب تخلق محللين سياسيين، ومروجين، ومطبلين وإعلاميين. جميعهم على نحو ما شكل من أشكال الأسلحة، قد تعمل بنية طيبة، أو بغيرها للطرفين، أو الأطراف المتحاربة.

المحللون السياسيون هم سلاح فعال، بل أخطر الأسلحة كافة. ومأساة الحرب ومصيبتها الكبرى أنها تستخدم أفضل ما لدى الإنسان لأسوأ ما قد يصيب الإنسان. ومناقشة المسائل التفصيلية لما حدث في الماضي، حتى ولو كانت تافهة يعرف (المحلل) عنها أكثر مما يعرف عن مستقبلها، فلغو المحلل واستعراضه لمسائل قيلت أو حدثت لا تفيد الأطراف المتنازعة لأنها لا تبحث عن مخرج لها من أزماتها، فليس هناك طرف في حرب من الحروب يريد استمرارها، وإنما يريد الوصول إلى نتائجها، وبالتالي مكاسبها، لأنه من البديهي أن النزاع الطويل يعني أن كلا الطرفين على خطأ، لأن الصواب في صف من يعجل بالحل. من يعين الناس العزل المحتاجين والخروج بهم من محنتهم.

بمقدور المحلل أن يحدثك أياما عما حدث، يفسر كيف، وأين، ولِمَ، حدث؟ ولكنه لا يستطيع بل وليس في مقدوره أن يحل المشكلة لأنه لا يملك خيوطها وخباياها. ولمَ الأمر كذلك.. لمَ يصرّ الكثيرون من المحليين، أو المتابعين السياسيين على تأجيج الصراع، في ليبيا،على سبيل المثال باختيارهم أن يكونوا في جبهة ضد أخرى؟ لماذا يصرون أن يكونوا مع طرف دون آخر؟ ولماذا لا يضعون حاجة الناس، الدرجة الأولى الخروج من هذا النفق المظلم باقل نسبة خسائر ممكنة.

أريد أن أقول أن البرامج الحوارية بين ضيفين ينتميان لطرفين متخاصمين لا يخدمان بأي حال من الأحوال طرفا دون آخر، وإنما يؤججان العداء والصراع، وكلاهما يختلق (عركة، ولكنها معتمدة أساسا، على السلاح في إنهائها وبالطبع لصالحه، ليس للأطراف كافة!).
إن ما نحتاجه فعلا، وبصورة سريعة وملحة، هو من يطرح الحلول، مهما كانت سطحية، لأنها ستكون البداية، التي نصل بها إلى الحلول التوافقية التي نقبلها جميعا، إن ما نحتاجه فعلا هو من يساعد على رصف الطريق لحلول جيدة، تخدم الأطراف جميعها، فلا يحق لأحد أن يلغي حق الآخر حتى ولو كان لا يتفق وقناعته، فهو يملك الحق مثلما يملكه هو: وسبيلنا إلى ذلك مثلما يحدث في العالم كله: 1- من يتفق عليه الناس هو الذي يحكم،2- فيما يكون للطرف الآخر أن يعارض ويصحح ويقدم الحلول والمقترحات، 3- وعندما يحين موعد ثان للانتخابات تُمنح فرصة الترشيح لمن يحكم ومن يعارض.

هذا باختصار شديد، هو ما تفق عليه بمصطلح تبادل السلطة. نحن لا نخدم فكرنا وقناعتنا بالتقليل من قيمة الطرف الآخر، لأنه لن يتخلى عن فكره وقناعته لأنك أشهرت في وجهه سلاحك.. ولكنه يقبلك ويتخلى عن سلاحه عنما تعترف له بحقة في تطبيق ما يعتقد أنه صحيح وتمنحه الفرصة في أن يخدم الناس وفق ما يراه صحيحا. أما غير فهو انتحار للطرفين.

الأمر لا يحتاج إلَّا إلى نظام خلاصته أن تقبل الأطراف بعضها البعض، وأن تقتنع أنه من المستحيل قيام نظام واحد أحادي مثلما كان في ليبيا، على الرغم من إعلانه لهذا الرأي ولكنه في الحقيقة لم يطبقه، أو حاول ولكنه فشل أو أن هناك من أفشله!.

فليعترف أنصار الدولة المدنية بحق الإسلاميين في الحكم تماما مثلما يعترف الإسلاميون بالدولة المدنية، وأن نعترف بأن من ينادون بالنظام الجماهيري هم أيضا ليبيون.. وعندها قد تعود ليبيا لنا جميعا... فهي إما أن تكون لنا جميعا أو أننا لن ننال منها شيئا. لأن العالم لن يصبر على سلوكيات الأخوة الأعداء لأنهم يلعبون بالنار أمام شارع (فيا فينتو) و شارع (الشانزليه) وشارع (أثيناس) ناهيك عن (سليما والحمرون).