Atwasat

قيود الرواية التاريخية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 23 ديسمبر 2018, 01:18 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في رواية «طريق جهنم»* يلتزم مؤلفها أنور العتوم، وهو أديب أردني، بما يعتبر عقدا بين الكاتب والقاريء. أي عندما يضع كاتب ما على غلاف كتابه تصنيف رواية، أو مسرحية، مثلا، يكون بذلك قد وقع عقدا ملزما يضمن لمن يقتني هذا الكتاب أنه سيقرأ رواية أو مسرحية، أي عمليا فنيا جماليا، وليس كتابا في التاريخ أو دراسة في الاقتصاد، مثلا.

على هذا المستوى التزم المؤلف بمقتضيات هذا العقد التزاما تاما.

لكن من جانب آخر، العمل رواية تاريخية بامتياز، فهي تتناول مفاصل محددة من تاريخ ليبيا السياسي القريب. وهذا يعتبر بندا ضمنيا في العقد يلتزم فيه المؤلف بوقائع التاريخ في الفترة التي تتناولها الرواية.

على هذا المستوى تثير الرواية بعض الإشكالات، وإن على نطاق ضيق، أي بالنسبة إلى أولئك القراء الليبيين المعايشين للفترة المعنية والمهتمين بمتابعتها، والقراء، الليبيين أيضا، الذين كانوا سجناء رأي في الحقبة التي تتحدث عنها الرواية.

طبعا للكاتب، في مثل هذه الحالة، مطلق الحرية في استبطان ذوات شخصياته وتحليل مشاعرهم وردات فعلهم النفسية، إلخ. لكنه يكون مقيدا ببنود العقد المبرم مع القاريء حين يتعلق الأمر بالوقائع الفعلية، حتى ولو كانت غير معروفة إلا لعدد محدود.

في الواقع يمكن تقسيم الرواية إلى روايتين مستقلتين.

الرواية الأولى، الأساسية، تعتمد على سيرة شخص قضى في السجن السياسي ثلاثين سنة متصلة، وهي مروية بضمير المتكلم، ويبدأ زمنها من سنة 1973 (تاريخ الاعتقالات التي جرت في ما عرف «الثورة الثقافية» إلى حوالي 2016، مع استعادات لوقائع من تاريخ شخصي أسبق يصل إلى أيام الطفولة، وفصولها مرقمة وتحمل عناوين دالة. والشخص الذي تم الاعتماد على سيرته مذكور باسمه الحقيقي في الرواية، وهو علي العكرمي الذي يضع تقديما صغيرا للرواية يقول فيه، من ضمن ما يقول «ما سجلت هنا إلا ما سمعت ورأيت». أي أنه يعلن صلته (كي لا أقول مسؤوليته) بشأن ما يروى على لسانه من وقائع.

وتحاول الرواية الثانية تخيل حالة العقيد معمر القذافي النفسية وردات فعله منذ اللحظة التي سمع فيها بالتمرد الشعبي في فبراير 2011، وحتى التمكن من قتله في أكتوبر من تلك السنة، وهي مروية بضمير الغائب من قبل ما يعرف في النقد بـ «الراوي العليم»، وتتسلسل أرقام فصولها مع فصول الرواية الأولى. أي أن الروايتين متداخلتان في تسلسل الفصول. لكن جميع فصول الرواية الثانية تحمل نفس العنوان، وهو «العقيد».

لا أريد أن أَجْرُد حالات عدم الالتزام بالوقائع التاريخية في الرواية. وإنما سأتوقف عند أمثلة قليلة جدا منها.

المثل الأول يقع خارج السجن، وهو المتعلق بالمصطلح الذي أطلقه معمر القذافي على الجماعات الدينية وصار مصطلحا معمولا به في الإعلام الليبي، وهو مصطلح «الزندقة». فتاريخيا لم يظهر هذا المصطلح في السبعينيات، كما ورد في الرواية. أيضا هناك مبالغة شديدة في أعداد السجناء السياسيين وفي شيوع عمليات القتل السياسي [طبعا باستثناء مذبحة سجن بوسليم].

لقد كنت أنا شخصيا في السجن في الفترة من 26/ 12/ 1978 حتى 3/ 3/ 1988، وعشت مع علي العكرمي في نفس القسم من حوالي سنة 1981 وحتى بداية 1988، وهناك أحداث كثيرة تنتمي إلى هذه الفترة أنا شاهد عليها لم تحدث على النحو المذكور في الرواية، من مثل تلك المتعلة بآمر السجن حينها عامر المسلاتي ومسألة أكل الأعشاب والفئران. فلم نصل إلى هذا الحد، ولم أسمع أنه تم الوصول إليه لاحقا.

لقد أكدت في مكان آخر على وجوب التزام الموضوعية في التعامل مع التاريخ بحيث لا ننسب إلى الحكام الطغاة جرائم تزيد عن تلك التي قاموا بها فعلا.

أريد، ختاما، أن أحيي، بحرارة وإكبار، علي العكرمي (المنتمي إلى تنظيم ديني هو «حزب التحرير الإسلامي» على ما تحلى، ويتحلى، به من نزاهة واحترام للعلاقات الإنسانية والتعايش الإنساني المتعالي على الخلافات الفكرية والآيديولوجية والسياسية. وهذا يظهر في الرواية بسطوع.

* أيمن العتوم، طريق جهنم، عصير الكتب. (د. ت). (د. م).