Atwasat

منجم الذهب ومصنع الأبطال في "مخلوف جم"

أحلام المهدي الإثنين 10 ديسمبر 2018, 02:35 مساء
أحلام المهدي

عندما كانت الحرب على أشدها في مدينة الملح وملاذ "الذائحين" من كل حدب وصوب، لم نعد نرى من بنغازي إلا صور المعارك المشتعلة في شوارعها، ولم يطرق مسامعنا إلا أزيز الرصاص وهو يغتال سكون أزقتها. كانت الأيدي على القلوب، والأرواح لا تملك إلا الرجاء في حلم تتقاذفه إرادة الأمواج العاتية.

لم تكن خافية على أحد استماتةُ البنغازيين في البقاء على قيد الأمل عندما شنّت جيوش الموت حربها الشرسة عليهم، كانوا دائما البذرة التي تحافظ على صلابتها في قلب الرحى، لتزهر فيها الحياة مع أول دمعة تتدحرج على خد السماء.

شاهدنا جميعا كيف كانت الحياة تخفق دائما في شرايين بنغازي المرهقة، يستمرون في إقامة الأعراس وتلك هي سنة الحياة، لم تختفِ حفلات التخرج وضحكات الناجحين من ساحات جامعتها ومدارسها وتلك هي إرادة جيل يريد أن يعيش كما يجب ويتلمّس بشغف طريقا نحو المستقبل، لكن اللافت حقا هو ما كان يحدث وقتها في "مخلوف جم"، حيث لم تعرف الحرب سبيلا للمكان الذي كان يخوض حربا من نوع آخر، حرب الحياة والإنجازات والبطولات، وتكديس الذهب والأوسمة على جيد الوطن الذي غصّت أيامه بالجثث والدموع.

يقول "عمر شبيك" بطل العالم في القوة البدنية لوزن تحت 56 كجم في بطولة العالم التي أقيمت في تكساس الأميركية عام 2016 إن هذه الصالة من أقدم صالات المدينة إذ فتحت أبوابها نهاية الستينيات وكان اسمها السابق "عبدالله عثمان"، وفيها استعد الملاكم العالمي "محمد علي كلاي" في سبعينيات القرن الماضي، ليتغير اسمها إلى "مخلوف جم" عام 2014 بعد أن تم تجديدها وتزويدها بآلات ومعدات حديثة تكريما للبطل العالمي والمدرب الراحل "محمد مخلوف" ليعيش هذا التكريم الاستثنائي قبل رحيله بسنتين، في حياته على غير العادة، فنحن قوم لا نذكر كبارنا إلا بعد الرحيل، والإسم تكريم أيضا لوالده المدرب الكبير الراحل عبدالسميع مخلوف الذي يواصل ابنه الآخر المدرب والبطل العالمي "طارق مخلوف" رحلة العطاء والإنجاز الموشى بالذهب حتى اليوم، وقال "شبيك" أيضا إن المكان لا يتلقى أي دعم حكومي أو رسمي وإن رواده في زيادة مطردة في الآونة الأخيرة.

لم تقفل الصالة أبوابها في الحرب الأخيرة التي خاضتها المدينة، لكنها شكلت جبهة حارب جنودها ببسالة تحاكي تلك التي حسمت الأمر في كل الجبهات ومحاور القتال الأخرى، لتشرق ألوان العلم بعد كل انتصار للحياة.
جنودها لم يكونوا فقط من بنغازي فمخلوف جم كان بيت البطل الطرابلسي "معاوية المليان" الثامن عالميا في وزنه، وابن اجدابيا "عبدالله هاجر" السابع على العالم في وزنه أيضا، بالإضافة إلى أبناء بنغازي، أبطال ليبيا والعالم مثل "فرج البرعصي" الثالث عالميا، و "محمد الاسكندراني" بطل أفريقيا ووصيف العالم عام 2014، و "موسى الدروقي" الثاني عالميا، و "مسعود المشيطي" الرابع عالميا. الأسماء كثيرة وهؤلاء قطرة في محيط إنجازات هذا المنجم.

أما الإنجاز الذي قد ننتظر طويلا لندركه مرة أخرى، فهو برونزية البطل "عبدالرحيم الزوي" في أولمبياد سيدني لذوي الاحتياجات الخاصة، فالزوي أيضا مرّ من هناك وتلقى تدريباته بإشراف الراحل محمد مخلوف الذي خسرته أسرة القوة البدنية في ليبيا عام 2016.

أما عن آخر محطات قطار الفرح هذا فقد كانت في مكناس المغربية أكتوبر الماضي حيث سطعت النجوم كعادتها وتألق العلم على منصات التتويج كما لم يفعل في أي مكان آخر، ومثل خلية نحل يعمل مخلوف جم في صمت ونشاط استعدادا لمواعيد العام 2019، من بطولات محلية ستكون إحداها في مارس بين جدران مخلوف جم، وأخرى تستضيفها مصراتة في أبريل، بالإضافة إلى بطولة المناطق وبطولة ليبيا التي ستحمل الكثير من الأسماء من مخلوف جم إلى بطولة العالم في السويد شهر يونيو، وبطولة أفريقيا في جنوب أفريقيا شهر أكتوبر.

يبزغ الجمال عندما يؤطره القبح، ويتألق الذهب العالمي على الصدور التي تلفظ سيور البنادق والرشاشات، ويضرب المخلصون موعدا للفرح النازف من جرح، والمجد لكل من يجعلنا نشعر بانتمائنا لهذا العالم ويضخّ الحياة في عروقنا في كل مرة.