Atwasat

كيف حال قبيلتك؟

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 ديسمبر 2018, 01:20 مساء
محمد عقيلة العمامي

تابعتُ الجدل التونسي حول مساواة المرأة في الميراث، وابتهجت بإقرار قانون بشأنه، وقرأت باهتمام بالغ ما كتبته الإعلامية السيدة فدوى بن عامر بسرد تاريخي شائق ومفيد، في صفحتها عن (أروى القيروانية)، زوجة الخليفة العباسي المنصور وتداعيات قرارها الذي لم تعرفه الكاتبة من قبل، والذي كنتُ على علم به، ولكنني على عادة الليبيين؛ يتذكرون ما يريدون ويتناسون ما يريدون أيضا.

في ليبيا أعرف كثيرين لا يورثون المرأة، وكنت وما زلت أرفض ذلك تماما، قد يكون ذلك بسبب أنه ليس لدى الكثير مما يورث، ولكنني أعترف أنني لم أفرق أبدا بين أبنائي في عواطفي، وقرارتي ومعاملتي.. وأيضا فيما يتوفر لينفق.

وكنت قد قرأت موضوعا، من حوالي خمسين عاما! وما زلت معجبا بالصورة التي رسمتها الكاتبة الهندية، التي ما تذكرت اسمها إلاّ أخيرا، بل والأدهى أنني عملتُ طوال حياتي، ومن دون تخطيط متعمد على تنفيذه؛ وهو أن تكون أسرتي بحجم قبيلة صغيرة! ولقد تحقق لي ذلك على نحو ما، ولم أنتبه إليه إلاّ عندما كرر صديقي محمد حسين كانون سؤاله عن أحوال قبيلتي وكان بالطبع يقصد أسرتي، وما زال يستخدم السؤال نفسه.

في بيتي سبع شقق، و(دار برّانيه) يعيش فيه 28 رجلا وامرأة وعددا آخر من الأطفال، وتعمدت أن يلتصق بيت شقيقي ببيتي وهكذا تكون (قبيلتي) تزيد عن خمسة ثلاثين إنسانا غير ما غادرنا من البنات وإن لم يغبن أبدا، عن هذا الكرنفال اليومي، خصوصا في مناسبات الإفطار الرمضاني!

لا أدري إن كان ذلك بسبب ذلك المقال الهندي، أو بسبب العراك اليومي، سوى من بعد نشيد: "سلّم سيدي سرحنا.. حط اعظامه في الجنا" عند مغادرتنا لخلوة الفقي (لامين) من جامع سي محمد بشارع نبوس أو عند (كامبو) مدرسة الأمير أمام مستوصف شارع بغداد، أو أمام سينما النهضة خصوصا أيام أفلام الرعب التي يمنع الأطفال من دخولها، فالغَلَبَةُ غالبا يكون لمن يرافقه أخوته!

منذ أيام عثرت في سور الأزبكية، على نسخة من مجلة المختار يعود تاريخها إلى أكتوبر 1965وجدت به المقال الهندي للكاتبة (سانتا راما راو) وتقول فيه: "أن الهند دولة فقيرة، تضرب بأسلوبها في الحياة المثل للحياة الإنسانية الخصبة.." وتؤكد أن طموح الفتاة الهندية هو أن تصبح حماة، أو(عمة) مثلما نسميها في ليبيا. وقالت أن الهنود يستغربون السؤال البسيط الذي يردده الأوربيون، والذي يتطابق مع سؤالنا نحن الليبيين: "كيف حال هلك؟" أو أسرتك، لأنه غير مفهوم فالأسرة في الهند لا تعني الزوج والزوجة والأبناء فقط! ولكنها يعني الأقارب كافة، بل يكاد أن يكون العشيرة كلها. وهكذا يكون السؤال عن الأسرة، مثلما يسأل صديقي محمد كانون: "بالله كيف حال قبيلتك؟".

وبسبب حجم الأسرة في الهند، تطمح الفتاة وتتطلع أن تكون أقدم سيدة في منزل يتفرع منه الأحفاد، فتكون امرأة مطاعة، ممتلئة حكمة ومهارة في إدارة هذه الإمبراطورية الصغيرة. باختصار تصبح بمثابة شيخ القبيلة، لأنها سوف تبسط سلطتها على كل من له الحق في أن يكون جزءا من هذا التنظيم العائلي الواسع: ابن عم أرمل، مثلا، أو فتاة لم تتزوج، أقرباء بعيدون، لجميعهم الحق أن تطول زيارتهم حتى أسبوع كامل، فيما تظل السلطة الآمرة إلى (شيخة القبيلة) أما الرجل فيبدو أنه مجرد (حنك فوقاني)!.
تقول الكاتبة أنها تذكر من بين أسرتها ابن عم جدتها، متقدم في السن يزورهم يوميا، ولأنه بخيل، تشتري له جدتي صحيفة يومية وتتركها له فوق كرسي لا يقربه أحد حتى يأتي عند الساعة السادسة تماما ويقرأ جريدته، ويظل فترة مستمتعا بالمكان ويغادر حتى من دون أن يقول كلمة واحدةّ. في الهند لا تنسى العائلة عجائزها أبدا، بل يظلون مكرمين معززين إلى أن يحرقوهم!

وتقول الكاتبة أن جدة لها سألتها من بعد أن عادت من أمريكا إلى الهند، عن الكهول الذين يعيشون في دار العجزة؟ فأجابتها بأنها حقيقة، فقالت الجدة: "أواه، ما أتعس ذلك!" فردت عليها أن كبار السن يفضلون أن يكون لهم مكان خاص بهم "فردت عليها بحدة أنها لا تعني الكبار، بل تعني تعاسة الشباب!

وفسرت الكاتبة حق كل فرد في الأسرة أن يتناول مشروبه المفضل وينفرد بنفسه متى يشاء للتأمل، وعلى الآخرين في الأسرة خدمته وبالتأكيد يخدمهم أيضا متى أرادوا الاختلاء بأنفسهم للتأمل. الخلاصة أن القيمة الحقيقية لوجود الأسرة الهندية هي مقدار ما يقدمونه لحياة الناس الذين حولهم. ويعدون الأطفال من البداية على أنهم جزء من الآخرين يلعبون معا، ويعتني الصغير بالكبير، دون فوارق العمر، فلو حدث أن كان هناك عرض مسرحي في قرية، فالعائلة كلها تتجه إليه، الزوج والزوجة الأطفال، وعليهم أن يأخذوا الكهول ويساعدوهم ويعودوا بهم.

وتقول الكاتبة أنها عرضت مشكلة شخصية على عمة من عماتها فأجابتها ببساطة: "عليك أن تسألي نفسك قبل أن تسألي أحدا: أيهما له السيادة عليك: رغباتك أم نفسك؟" وهذا في الحقيقة سر فلسفي عميق ويجيب على كافة تساؤلات المرء الحياتية.. فالثروة الوحيدة في حياتنا هي الحياة، وهل ثمة أثمن منها ليورث؟