Atwasat

سياسة وسواس التسييس

سالم العوكلي الأحد 09 ديسمبر 2018, 10:24 صباحا
سالم العوكلي

حين يُراد لمسألة ما أن تُقصى من دائرة اهتمام الدولة، أو تُفرّغ من محتواها السياسي، يقال عنها "أنها محاولة للتسييس" أو تعلن السلطة المتبرئة من مسؤوليتها المباشرة أنها ضد تسييس هذه المسألة، مع أن هذه المسألة أو الحادثة تقع غالبا في قلب السياسة. إضراب نقابة الشغل في تونس كمثال، أو الإضراب بصفة عامة أو العصيان المدني، أو حادثة اختطاف صاحب رأي سياسي مخالف، أو غيرها مما يهدد أمن المواطن وحياته.

التسييس نسبة إلى السياسة مصطلح يتكرر كثيرا في أفواه السياسيين الذين لا يريدون لشيء أن يسيس. ودائما ما يتصدون لنقد الآخرين في أمور تمس حياتهم بقولهم نحن ضد تسييس هذا الأمر، وكأن التسييس جريمة في حدا ذاته أو خروج عن قواعد اللعبة.
في إضراب نقابة الشغل في تونس كان ممثلو الحكومة ينتقدون هذه الإضرابات باعتبار تم تسييسها. في حادثة مقتل الكاتب جمال الخاشقجي في قنصلية دولته في اسطنبول، تقول السلطات السعودية أنها ضد تسييس هذه القضية.

في قنواتنا الفضائية كثيرا ما يتشدق الذين احتكروا السياسة في جولاتهم المكوكية بقولهم نحن ضد تسييس الأزمة، أو استغلالها سياسيا. كأن إضراب عمال دولة من أجل تحسين أوضاعهم العملية والمعيشية أمر لا يمت للسياسة بصلة، أو اشتراك أجهزة دولة أمنية واستخباراتية في مقتل كاتب معارض سياسي في قنصلية دولة أخرى، وإخفاء جثته حادث عرضي لا علاقة له بالسياسة.

وكأن وصول نصف شعب إلى ما تحت خط الفقر نتيجة سياسات اقتصادية رعناء أمر خارج حقل السياسة واهتمام الساسة. "المواطنة" و"المواطن" مصطلحات سياسية تتضمن حقوقا دستورية وقانونية، وأي عمل يمس هذه الاصطلاحات هو من صميم السياسة، من غلاء أو فقدان رغيف الخبز إلى تقطيع جسد مواطن لأن له رأيا سياسيا مختلفا عن السلطة.

المفارق والغريب، أن هذه الأنظمة التي تصدح بفوبيا التسييس، لا تمارس هذا التسييس سوى في الجوانب التي من المفترض فعلا أن لا تُسيّس، وهي الدين والقبيلة والقضاء. في صراع ممثلي الأطراف الليبية السياسية كثيرا ما يحذر بعضهم بعضا من تسييس الأزمات التي يمر بها الشعب، من غلاء أسعار، ونقص سيولة، وتدن في مستوى المعيشة، وفقدان الخدمات الصحية، وانعدام الرقابة على الغذاء والأدوية، وغيرها من المشاكل التي تشكل خطرا على حياة الناس أكثر من خطر الإرهاب المباشر نفسه، وكأنها كوارث طبيعية أو جرائم جنائية لا يجب إقحامها في السياسة التي هي بالنسبة لهم سلطات تشريعية عاطلة عن العمل، وتنفيذية ليس بإمكانها تنفيذ شيء، وهي بالنسبة لهم خروج دائم على شاشات القنوات الفضائية والهذر بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع أو مرض أو فقر. وتحول حقل السياسة في ليبيا إلى منطقة غنائم وياغمة ونفوذ، ومن يجيدون السباحة في هذا الفساد الذي ينخره يتمنون أن يبتعد الناس عن هذا المستنقع الذي يدر عليهم ذهبا، بينما المواطن الذي تعود أن يشارك في صياغة سياسات مجتمعه شكليا عبر أكذوبة السلطة الشعبية، ولعدة عقود، فقدَ بعد أن تخلص من النظام المراوغ حتى هذه المشاركة الشكلية، وانتقل إلى طوابير الانتظار الذي خبره لقرون طويلة حين كانت قوى خارجية تدير دفة هذه الأرض وهذا المجتمع لقرون طويلة. فممارسة السياسة والمشاركة الفعلية لدى القطاع العريض من المجتمع لا تتم إلا عبر الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات المستقلة، وهي آليات غالبا ما تم منعها أو الالتفاف عليها عبر حقب طويلة من تاريخنا، ما جعل هذا المجتمع يرتبك في كيفية المشاركة حين كسر قيود الطغيان ووجد نفسه في فراغ دون أية أدوات أو خبرة يستعين بها على الفعل.

لذلك فالجميع لا يرى ضوءا في الخروج من الأزمة إلا عبر الانتخابات، وكأن تحديد يوم ليقف الناخبون في طوابير ويضعوا ورقة في صندوق هو جوهر المشاركة السياسية، غير أنها اللعبة الخادعة نفسها التي لعبها النظام السابق عبر ما سماه "التصعيد الشعبي" ، وفي الحقيقة، التصعيد أو الانتخابات مجرد آلية تفريغ لهذه الشحنات الشعبية وإيهامها أنها تعيش حالة ديمقراطية مباشرة أو غير مباشرة. في الحالتين اللعبة ساذجة ومكشوفة، والانتخابات حين تتم في مجتمع لا خبرة له بالمشاركة السياسية عبر الأدوات السابق ذكرها فستتحول إلى ما يشبه لعبة الغميضة، أو تحريك قطع الشطرنج على رقعة بلون واحد، وبالتالي سيكون الاختيار جزافيا وعشوائيا مثلما حدث في انتخابات المؤتمر الوطني ومجلس النواب اللذين عملا مباشرة ضد ما يريده الناس، والسبب كون من اختيروا لا ذاكرة لهم في العمل السياسي أو طبيعة التمثيل للقاعدة الانتخابية، والسبب أيضا لأن الانتخابات لا يمكنها أن تختلف عن آلية التصعيد المضحكة إلا بكون الناخب أمامه برامج عملية ورؤى للمستقبل بإمكانه أن يختار بينها، وهذه البرامج لا يمكن إلا أن تتبلور إلا عبر رؤية أحزاب لها قاعدة ولها فكر ولها كوادر قادرة على أن تشكل منها حكومات وأجهزة رقابية.

انتخب الليبيون للمؤتمر الوطني كتلة التحالف الوطني التي كان لها برنامج وخارطة طريق واضحة، لكن هذه الكتلة التي حصلت على الأغلبية تحولت إلى أقلية مهمشة داخل المؤتمر الوطني، والسبب هي الآليات الديمقراطية التي تحدثنا عنها، ففي مجتمع ليس فيه منظمات مدنية فاعلة ولا نقابات نافذة ولا ثقافة أو قاعدة حزبية، تتحول الأغلبية المنتخبة إلى أقلية بفعل المال السياسي الذي يحل محل الولاء للحزب أو التكتل، لأن البرنامج المقدم كان يعوزه التنظيم، ولأنه في الواقع لم تتبلور أية عقيدة سياسية لهذا الحزب أو التكتل الارتجالي الذي قدم نفسه عبر برنامج انتخابي دون أن تكون له الكوادر المنتمية القادرة على الدفاع عن أغلبيته داخل السلطة التشريعية والقادرة على تشكيل السلطة التنفيذية المخلصة للبرنامج.

في انتخابات البرلمان ألغيت القوائم الحزبية ليحل محلها المرشحون الأفراد، باعتبار أن الأحزاب أو التكتلات الناشئة هي سر كل البلاء الذي حدث للمؤتمر الوطني، لكن مجلس النواب الجديد لم يكن أفضل من المؤتمر الوطني سيء الذكر، وسرعان ما انقسم إلى كتل مرتجلة داخله دون أن يكون لها برامج أو انتماء حقيقي أو ذاكرة سياسية. كتل جهوية أو مصلحية ضيقة، أو كتل لتصفية حسابات شخصية، غير أن هذا التكتل يعكس في طبيعته النزوع الأصلي للعمل السياسي، وكان أن جاءت الأحزاب بعد الانتخابات مثلما يجيء الحب بعد الزواج، غير أن حالات الهجر في المضاجع والطلاق لم تتوقف داخل هذه التكتلات المصلحية.

بمعنى آخر هي تكتلات تشبه انقسام البكتيريا داخل مستعمراتها غير المرئية ولا علاقة للناس بها، الناس المبعدين عن المشاركة إلا بشكل موسمي يغطسون فيه أصابعهم في الصبغة البنفسجية ويعودون إلى مقاعدهم خلف الشاشات يراقبون الذين انتخبوهم وهم يعلنون أنهم ضد تسييس مآسي الشعب الذي خُدِع مرتين: مرةً حين انتخب تكتلا في المؤتمر الوطني سرعان ما ابتلعته تكتلات المال السياسي وانتخبوا مستقلين اكتشفوا أنهم زوروا هوياتهم الانتخابية للوصول إلى قبة السلطة التشريعية ثم العودة سالمين إلى تنظيمهم، والخدعة الثانية حين تبرءوا مثل النظام السابق من الأحزاب الرجعية وانتخبوا مستقلين في مجلس النواب ليتحولوا فيما بعد إلى كتل عصبوية متحاربة تحت قبة البرلمان الذي لا قبة له، تكتلات دون أخلاق الثقافة الحزبية ودون ولاء أو برامج، فيما يشبه الشلل الارتجالية أو الميليشيات السياسية الخارجة عن أخلاق المسؤولية تعمل بنفس ذهنية الميليشيات العسكرية الخارجة عن القانون.