Atwasat

الصابري زين على زين

أحمد الفيتوري الأربعاء 28 نوفمبر 2018, 01:03 مساء
أحمد الفيتوري

• الصابري عمره ما ذل
زرتُ الشهر الماضي ’بعد أن سكتت المدافع’ "حي الصابري" بمدينة بنغازي، حيث ولدتُ وعشتُ وحيث بيتنا ما هدم من نتائج الحرب على الإرهاب، وما شاهدتهُ شاهدهُ كل متابع للأخبار في محطات التلفزيون من دمار وخراب شامل، ما يشبه آثار حرب الحلفاء ضد الفاشية والنازية في الحرب الكبرى الثانية الذين تبادلوا احتلال بنغازي لأكثر من مرة. 

في الصابري سبعة عشر مدرسة ابتدائية وإعدادية وثانوية ومعاهد، بحيث يولد المرء فيتعلم حتى ينهي تعليمه ثم يوظف بذا الحي ويعيش به بقية العمر، لكن من هذه الصرح التعليمية لم يتبق غير مدرستين والبقية أصابهما ما أصاب بيتنا من آثار الحرب.

الصابري المنكوب ضربت بنيته التحتية المتهالكة أصلا فغرق في بحر من ماء أسود، بعد أن كان يغرقه البحر الأبيض قبل أن ينجز العهد الملكي مصدات أسمنت مسلح في أوائل ستينيات القرن العشرين، والجسر الواصل بينه وشرق المدينة انهار. وقد مشيت في شوارع طفولتي وصباي فما رأيت إلا مشاهد من شريط سينمائي لمدينة في الحرب الكبرى الثانية أو بعضا من بيروت عقب حربها الأهلية.

الصابري حيث عشت جُلَ العمر بين مقبرتي سيدي اعبيد ومقبرة اليهود بدا كساحة أشباح حقيقية، وليس كما في مقال نشر في نهاية الستينات بجريدة الحقيقة لصادق النيهوم الساخر، ما كتبه على شكل عريضة دبجها أهالي الصابري يشتكون فيها: أن أهل بنغازي حولوا الصابري إلى ساحة عزاء دائم، لأنهم يجلبون كل يوم موتاهم لمصلى الموتى في الجامع الذي يقع عند فم السور المدخل الغربي لحي الصابري، ثم يحملون الميت في جنازة تخترق الحي حتى شرقه حيث جبانة سيدي اعبيد.

• الصابري ورد وياسمين
شاهدت خلال الأيام الماضية حلقة من برنامج في محطة تلفزيونية استضيف فيها شخصان من آل الصابري وهما ممن يعمل لأجل (إعمار الصابري)، قالا ما توقعت وما شاهدت بواكيره، لم يقعد آل الحي على تكية جامع فم السور في انتظار غودو الذي يأتي ولا يأتي، فكما شاركوا في تحريره شرعوا في إعادة إعماره بما ممكن لأنه في الإمكان أبدع مما كان، ومثلا أصرت مديرة مدرسة على أن تشرف على صيانة مدرستها وجمعت حولها آل الحي بعد إتمام الصيانة بالمبادرة الشعبية جمعت فيها طلبة أربعة مدارس. وبمثل هذه المبادرة تم التمكن من استعادة الحي من الموت، وبدأت عودة الروح تشع في آل الحي بالمزيد من المبادات دون انتظار لوعود دولة أصلا لا وجود لها وبالتالي حكومة لا حول ولا قوة لها.

وكأنما بهذا بنغازي عبر آل الصابري توكد أن التاريخ يعيد نفسه، فعقب توقف الحرب الكبرى الثانية اعتمد أهل بنغازي المجتمع الأهلي لإعمار بنغازي، حيث لم تكن دولة بعد ولا شبح لحكومة فوصلت المبادرات الشعبية إلى درجة أنها أقامت مدارس ليلية وملاجئ للأيتام ولإيواء من فقدوا ذويهم من الكبار والعجزة ... وهلم.

• الصابري عرجون الفل
الحي الشرقي لمدينة بنغازي ما عرف بحي الصابري سكانه مهجرين من ربوع ليبيا من عمالها وفقرائها، وفيه تعايش البشر باختلاف دينهم ولونهم، ولهذا احتضن الحي فنونا ليبية وفيه ازدهر فن المرزكاوي فسكنه فنانون معرفون وشخصيات من أعلام ليبيا في مجالات عدة. وموقعه قرب وسط المدينة والميناء جعله يتصدر المدينة في مواجهة الإرهاب ويدفع ثمنا باهظا في سنوات الحرب. 

وأن ينهض من كبوة نهوض لبنغازي، وأن نعيد الحياة بروح المبادرة الأهلية لهذا الحي الشعبي ما كان كما روح المدينة بتنوع سكانه وتراثهم الفني المتميز فإننا نخرج من حالة ما بعد الحرب ومن حال الروح المنهكة ومن آثار الحرب.

وإني أعيد بهذا المقال روح مقال صادق النيهوم ولكن ليس للشكوى من الموتى ولا لبكاء عليهم أو العويل مما حدث، بل من أجل أن نستعيد روح ليبيا التي نهضت عقب حرب كبرى ضروس خاضتها جيوش دول أوروبا العظمى على أرضها، فنهض شعبها يبني ويتعلم وكما لم تكن ثمة دولة لم يلق دعما من أحد ولكن اقتسم لقمته بين غذاء للبطن وغذاء للروح: الصابري عرجون الفل/ الصابري ورد وياسمين/ الصابري عمره ما ذل/ الصابري زين على زين.