Atwasat

التنوير مخففا

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 27 نوفمبر 2018, 01:46 مساء
عبد الكافي المغربي

طور المثقف العام حقل الدراسات الثقافية استجابة للمأزق الذي تعثر به النقد الأكاديمي في الجامعات الغربية الممتازة، حيث أنهى الحشد الأعظم من الأساتذة رحلة انغماسهم في التجريد التام من دون أن يصعد لهم وللنقد التقليدي أثر خارج أسوار صوامعهم البحثية. 

ولا يزال لتراجع القراءة بالموازاة مع صعود الأجيال الشابة وعوامل التشتيت التقنية بصمات في تضاؤل النقد وانخفاض الجودة الفنية.

ذلك أن قارئ اليوم لم يعد يطيق أولئك الذين يكتبون لبعضهم، وأولئك الذين يوجهون في أنفة وضيق نفس ميل الجمهور، واخترقت فلسفات التفكيك التي أقام أسسها نيتشة وماركس ميدان النقد الأدبي والتقييم الفني فأعملت في كليهما الهدم وسلخت الأعمال الأدبية إلا من هيكلها، وقدمت القارئ في فهم النصوص ليس على الناقد فقط، بل على مؤلف النص نفسه.

وهكذا بدا أنه لا بد من الاستجابة لانكماش الإقبال على الكلاسيكيات الرفيعة التي كادت لا تقرأ خارج الجامعات، وانتكاس الناقد الأكاديمي بالزيادة إلى قبْض المستثمر يده عن الصحافة وتراجع أرباح الإعلان على الجرائد، وأتت الاستجابة بنشأة حقل الدراسات الثقافية المتعاطف مع الفنون السائرة ومنابع التسلية الشائعة، والذي أخذ يبحث في الفنون جميعها من رقص وموسيقى ورسم ونحت وأدب وتمثيل، وأكد مرونته باتساع ميدان بحثه مع اتساع الحياة العصرية وتعدد مصادر المعرفة وتلون التسلية بشتى الألوان.

لقد وعا المثقف الشاب سراج العالم الذي تلقى تعليما راقيا في الولايات المتحدة حاجتنا لاستحداث نمط عصري من التنوير، فإذا كانت الطبقات الأكثر يسرا في أوروبا التي ظلت تُوقِف اهتمامها ببلزاك وجيد وسكوت قد انصرفت مؤخرا عن قراءة هذه الأعمال الرفيعة جدا، فما أجدر طبقاتنا جميعها بأن تنصرف بوعي حاد عن كل أدب وعن كل معرفة. العالِم قارئ نهم لا يغنيني الجلوس إلى أحد بقدر ما أثرى من مطارحة الأفكار معه، وقد أضاء في عقلي جوانب مظلمة، وكثيرا ما أجد لديه من المعرفة غريبها ومن الفكر والأدب طريفه ولطيفه. وعلى اتساع معارفه وتسامي فكره وإدراكه من الأمور كُنْهَها لم يأنف أن يبادر إلى محاولة جديدة لتنبيه الذهن الليبي بأحدث أساليب العصر وأقربها إلى النفس فكانت قناة "قطع غيار".

إنك تجد لدى قطع غيار صنوفا من المواضيع التي تنفصم فيما تتناول ولكن تنسجم في شكل الطرح. وهذه القناة التي قدر لها أن تصادف نجاحا كبيرا هي عمل ألهمته دُربة صديقنا في ميدان الحياة وشمول إحاطته بالتحديات الثقافية التي واجهت المجتمعات المختلفة، ولينه إزاء المخالفين، وإيمانه بالتغيير التدريجي وصبره على وعي مواطنيه بالحقوق التي تعد مسلمات في المجتمعات الصناعية، ذلك الوعي الذي يبدو لي يخطو متخبطا غير مبصر.  

لقد قدمت من خلال قطع غيار لمحة عن حقل الدراسات الثقافية اللافت، وكان نقد قناة اليوتيوب سيُطعم صفحات كثيرة من جانب الباحثين في الدراسات الثقافية، التي لم تلبث أن اتخذت سبيلها إلى الكليات والجامعات الكبرى. وأنا لا أظنُّني منتهيا عن الإيمان بخلود أمهات الأدب وتكريس الوقت لها، والدهشة تأخذني بتأملها، وأتوجس من نأي جمهور القراء عن الكتاب الممتاز أن نقصر في المستقبل عن بث الحياة إلى الأدب العربي الذي ذهب عنه ألقه بين واقعية شكاءة بكاءة، ورمزية مستغلقة، أو السخافات التي تُجمع نصوص بعضها إلى بعض من أجل الجوائز. لكن نحن نعترف إنه لمن المُلِحّات الآن أن يتقدم أحد المثقفين البارعين في التقنية ويقدم قناته الخاصة التي تضيق مواضيعها إلى إنتاج الثقافة المبسطة وتكييف الأدب الرفيع ليبدو سائغا للقارئ العادي. إن هذا العصر، وبدرجة خاصة في العالم العربي، لا يمكنه استيعاب أي كاتب أو أديب يسلك مسلك طه حسين الذي يبدو دائما في مقالاته كمن يتصدق على القارئ ببعض علمه الذي يصوره له بعضُ الكِبْر وعِرا مستغلقا، أو توفيق الحكيم الذي حاول على مدى حياته تمثيل دور الفيلسوف الحائر المستغرق والمتمنع عن مواصلة المجالس العامة، ذلك أن عصرنا أسقط موضة الرهبنة الثقافية وصار يتطلب من الكاتب إذا كان يريد أن يجد قراءًا أن يكثف وجوده في منابر المجتمع من إعلام وصحافة وندوات وغيرها، وأن تلتحم كتابته مع التجارب الواقعية والتفاعلات النفسية لمواطنيه ويترجمها بشمول العارف المجرب، كأن شخصياته الأفرادُ جميعا يصبون في اختباراتها وآمالها طابعا واحدا منسجما، أو كأنه الله الذي يعرف كل شيء، في تناوله لشخصياته في عمل أدبي. وأمام ناظرنا تمثل قناة اليوتيوب thugnotes التي تديرها طائفة من المخرجين والممثلين والأكاديميين الذين جمعهم الإحباط من الجفاف الأكاديمي فقدموا الأدب الإنجليزي والكلاسيكيات الأبرز بشخصية "بروفيسور" من رجال العصابات الأمريكية الأفريقية، يقدم تحليلا ذكيا وتلخيصا مستساغا بينما يتطاير منه اللُعاب وبعض الكلمات التي إن لاقت في جميع المناسبات، فهي لا تليق بالأدب!.