Atwasat

قُتِلَ الجعد ومات إبن الراوندي (3/3)

أحمد معيوف الإثنين 26 نوفمبر 2018, 01:30 مساء
أحمد معيوف

"إنه الشرك في السياسة الذي يرفضه الحاكم ويعاقب عليه بالشرك في الألوهية"
محمد عابد الجابري

أذا تأملنا في فصلي هذه المقالة السابقين، يدهشنا كيف توفي ابن الراوندي وفاة طبيعية، رغم ليس فقط جهره بما يخالف الدين، وإنما شهرته من خلال كتاباته وردود علماء عصره عليه، الذين أجمعوا تقريبا على إلحاده. وأكثر من ذلك فقد اطلع أعلى رأس في الدولة على أهم مؤلف لهذا الرجل يهاجم فيه كل المعتقدات الدينية، ويفند ما أصبح ضرورة إيمانية كالنبوة. بل أكثر من ذلك له مصنف في خلق القرآن، مع كل ذلك كان يسير بين الناس وينشر أفكاره في كتبه التي يتداولها الناس، دون أن يتعرض له عارض من أذى، ناهيك على أن يهدد حياته.

وخلافا لذلك، فإن الجعد لم ينشر معتقداته بنفس الدرجة التي انتشرت فيه معتقدات وأفكار ابن الراوندي. وحتى المنهج الفكري أو الاتجاه المذهبي في عصريهما لم يكن يختلف، فالجعد عاش في بيئة كان للتيار السني الذي ينسب نفسه إلى السلف هو تيار الدولة. وكذلك الحال بالنسبة لابن الراوندي، فالتيار المذهبي الذي كان مدعوما من قبل السلطة في عهد المتوكل العباسي هو التيار الحنبلي، بعد أن تقلصت سلطة تيار المعتزلة عقب وفات الخليفة الواثق. 

يقال أن الخليفة معاویة خطب في الناس فقال: إن الله قد وضع في اللوح المحفوظ مسار الحیاة لكل إنسان: متى یولد، وكم سیعیش، وكیف ستكون حیاته، ومتى یموت وكیف سیموت. ومدون في ھذا اللوح المحفوظ متى یولد علي بن أبي طالب، ومتى یموت وكیف سیموت، كما ھو مدون أیضاً متى یولد معاویة وكیف سیصبح خلیفة ومقدار مدة خلافته، وكیف ومتى سیموت. ولیس من حق من یؤمن بالإسلام أن یعترض على حكم الله المدون في اللوح المحفوظ، لأن الإنسان مسیّر ولیس مخیّرا.
هذه الخطبة أسست كما يعتقد لفلسفة الجبر، والتي مفادها أن إرادة الإنسان العاقلة عاجزة عن توجيه مجرى الحوادث، وأن كل ما يحدث للإنسان قد قدّر عليه أزلا، فهو مسيّر لا مخيّر.

يختلف الناس على هذه الخطبة، ويردها البعض إلى أكاذيب ونسج أعداء معاوية من الشيعة والمعتزلة، فالشيعة لا تخفي عداءها لكل من حمل السلاح ضد علي بن أبي طالب، وتعتبر معاوية ألد أعدائها لأنه سرق حق الخلافة. والمعتزلة ومن على منهجهم كالإباضية والخوارج عقيدتهم في إجازة الخروج على الحاكم المسلم الجائر تخالف عقيدة أهل السنة التي تأمر بعدم الخروج على الحاكم. لهذا، فهولاء المتربصون بمعاوية هم من ينسبون مذهب الجبرية إليه. والحقيقة أن مذهب المعتزلة في تنزيه الله هو الذي غلب على فكرهم، لذلك يؤمنون "أن عدل الله تعالى یوم الحساب لا یقبل بعقاب إنسان على خطیئة أجبره سبحانه على مقارفتھا"، لهذا غلب أهل العدل على تسميتهم، ولهذا ناصبوا الحكام القائلين بالجبر العداء.

انتشر مذھب الجبریة الذي ینفي إرادة الإنسان عن عمله، كوسیلة شرعیة لتبریر ما يفعله الخلفاء والولاة، وأصبح المذھب الذي استندت إلیه الشرعیة الدینیة في تبرير الممارسات السياسية الجائرة للحكام.

خطب الجعد بن درهم بالناس فقال: "إن أفعال الإنسان سواء كانت خيراً أو شراً هي من صنعه وحده، أي من صنع الإنسان، وحاشى الله جلت قدرته أن يجبر الإنسان على فعل القبح والشر، ثم يعاقبه على ذلك، لأن عدل الله تعالى يوم الحساب لا يقبل بعقاب إنسان على خطيئة أجبره سبحانه على مقارفتها. وآيات القرآن الكريم، نصت على أن العقل هو مناط الحساب، فإن فعل قبحاً كان ذلك باختياره وخضع للحساب؛ إذ إن الإنسان مخيّر في هذه الدنيا".

وعندما تولي ھشام بن عبدالملك الخلافة، وصل سمعه رأي الجعد بن درھم، وقد خشي أن تؤدي اجتھادات الجعد إلى تقویض حكمه، خاصة ما للمكانة العالية التي يعلمها للجعد الذي اختاروه معلماً ومربیاً لأحد أبنائھم كما مر علينا. فمضمون خطبة الجعد هي هدم لفلسفة الجبر التي تبناها الأمويون ومن في حكمهم، وبالتالي ربما أوحى إلى خالد القسري بفعلته تلك في يوم الأضحى.

لا شك أن هذا الخلاف في فهم مسؤولية الإنسان عن فعله يدفع للصدام بين وجهي الخلاف، ويقلص من مساحة ما يمكن أن يبرره الحكام وأعوانهم وما يسوغونه في ما يمارسونه من أعمال ينكرون مسؤوليتهم عنها، وبالتالي يتزايد الشرخ بين الإذعان المطلق لإرادة الحاكم وحرية إرادة المحكوم، التي لا شك سيكون مآلها الثورة على النظام الجائر. لقد فهم الأمراء والحكام في العهد الأموي خطورة هذا الرأي، لذلك ما كان لهم إلا أن يستأصلوا شفته، وطبعا كان الدين دوما هو المطية المأمونة لتنفيذ أحكام تعسفية، فاستغل رأي الجعد في خلق القرآن وتأويله لآيات الخلة والكلام بما يسمح بالتخلص منه، دون أن يلام النظام على نسجه شباكا لخصم سياسي بحجم الجعد.

وللتدليل على هذا الأمر، فإن علماء السلفية لم يدينوا الجعد ويتهموه بإنكار آيات القرأن التي تحدتث عن الخلة وعن كلام الله لموسي، وإنما أدانوه على تأويل معنى "خليلا" ومعنى "كلّم" فيهما، وهذا النوع من التأويل كان مقبولا في مذاهب إسلاميّة عديدة معاصرة له كالمعتزلة، والإباضية، وما كانت السلطة تتعرض لهم بسوء، بل كانوا يعلنون عقيدتهم ويدعون لها بكل حريّة. في هذا الشأن يقول المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد): "إنه الشرك في السياسة الذي يرفضه الحاكم ويعاقب عليه بالشرك في الألوهيه".

إن الدافع للكتابة في هذا الموضوع، هو ظهور الجماعات التكفيرية التي سلكت مسلك سلفها في قضايا التكفير وتقديس الحكام وتبرير أفعالهم، مما جعل الكثير من الناس يستهجنون مسلكها، وينقلبون ليس عليها وإنما على الدين نفسه، فالنفس البشرية جبلت على الحرية، وتقييد تلك الحرية عن طريق دعم الاستبداد والدفاع عنه باسم الدين يدفع بالإنسان، وخاصة الشباب، إلى الانقلاب على الاستبداد وعلى الدين الذي يصور لهم على أنه حامٍ لهذا الاستبداد.