Atwasat

الرئة المعطلة: المرأة ومارثون الديمقراطية في بلدنا

أبو القاسم قزيط الثلاثاء 20 نوفمبر 2018, 11:51 صباحا
أبو القاسم قزيط

يقال مجازا من يمتلك نفسا طويلا وجلدا هائلا أنه برئة ثالثة، على اعتبار أن الإنسان الطبيعي يمتلك رئتين للتنفس، ويقال لقصير النفس، ضعيف التحمل أنه برئة واحدة، هذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة إلى المجتمع فالمارثون الذي انطلق من بابل في العراق والجيزة في مصر، فإن الرجل رئة والمرأة رئة أخرى، وبنظرة بسيطة على خارطة العالم نجد أن المجتمعات التي تتنفس برئتين أكثر تقدما من حضارات انطلقت قبلها في مضمار الحضارة، لكنها تأخرت لأنها خاضت مارثونها الطويل، فرغم أسبقيتها في الانطلاق إلا أنها تراجعت بسبب قصر النفس.

لا مندوحة من القول أن الحضارة البشرية حضارة ذكورية ولازالت إلى اليوم وإسهام عالم الاحتماع الفذ بيير بورديو. يعري الحضارة الغربية من نفاقها وينقدها نقدا جارحا. لكنه مفيد على أي حال، فالمناصب السياسية الكبرى في دول الغرب دائما للرجال وليس النساء، وحالة مرغريت تاتشر وتريزا ماي وميركل،هي استثناء يؤكد القاعدة. من المهم الانتباه إلى أن البنوك الكبرى والشركات العملاقة في عالم الرأسمالية هي من الأهمية التي تضارع رئيس الجمهورية، وهو مجال تغيب عنه حواء تماما، لكن لا يخلو الحال من استثناء كما هو حال كرستين لاغارد.

ليبيا في سنوات السبعينات وما قبلها كانت تحظى بهامش كبير من الحرية خاصة في الحواضر الكبرى مثل طرابلس وبنغازي، لكن ما يعرف بالثورة الإيرانية العظيمة التي اجترحها الشعب الإيراني، وسرقها نظام الملالي ومرجعيات الحوزات، أطلق شعارات الإمبريالية الدينية القائمة على الفقه الشيعي وبنفس شوفيني فارسي متعصب، وظهر شعار ما يعرف بتصدير الثورة، حاول نظام الملالي استغلال الجاذبية العالية لثورة الشعب الإيراني وهي أول ثورة شعبية حقيقة منذ ثورة البلاشفة، هده الجادبية الخادعة أغوت وفتنت حتى أحد أعظم العقول في القرن الماضي مثل ميشال فوكو الذي كال لها المديح في مستهلها..

هذه الجاذبية خلقت متعاطفين مع الثورة الإيرانية خاصة في المحيط العربي، لكنها أيقظت حساسيات قديمة وسوء فهم تاريخي بينها وبين الحركة الوهابية (التي هي صياغة عصرية ومتطرفة لمذهب الشيخ أحمد بن حنبل)، التي تسيطر على شبة الجزيرة العربية حيث منابع النفط وخزائن الدولار.

وردًت المملكة العربية السعودية بهجمة مضادة كاسحة سخرت لها مئات المليارات من الدولارات حتى تتصدى للفكر الشيعي المارق في نظرهم، فكانت النتيجة وبالا على البلاد العربية ومنها ليبيا، فأبدلت المرأة الليبية لباسها الأبيض النوراني إلى الأسود الظلامي، وأصبحت تفقد يوما بعد يوم رصيدها من الحريات، وأصبحنا نخوض حربا بين السلفية الوهابية والشيعة، معركة مكانها الخليج العربي أصبحت تخاض بضراوة وحماس في تخوم طرابلس وبنغازي.

في ليبيا حيث تسود المالكية لا عداء مستعر مع الشيعة أو غيرهم، المالكية عبر عنها الشيخ الراحل مصطفى التريكي رحمه الله بجملة دائما يرددها (دينا ما كويسته). هذا الدين الذي كان متسامحا تحول إلى اسلام غاصب (على رأي راشد الغنوشي) أحمر العينين مجلل بالغيوم.

بل إن الميراث الثقافي للدولة الفاطمية التي حكمت ليبيا في سالف الأزمان تلاحظ في التسامح تجاه الشيعة والشيوع الواسع جدا للاسماء المفضلة لدى الشيعة، وهي علي والحسن والحسين. بل إن الراحل على فهمي خشيم يقول، إن الطليان كانوا ينادون كل من لايعرفونه بعلي، دليلا على أنه كان الاسم الأكثر انتشارا إبان الاستعمار الإيطالي.

نتيجة لهده الهجمة الشرسة أصبح يلحظ تغيير كبير في المجتمع الليبي أواخر الثمانينات، وفي التسعينات وعادت المرأة الليبية تنزوي يوما بعد يوم في طريقها لتصبح حرمة كما أراد لها البترودولار. الديمقراطية من حيث المبدأ تفترض الرشد في الناس قاطبة، لذلك أي خلل في منظومة حقوق الإنسان واعتبار المرأة أقل عقلا أو حكمة أو تبصرا من الرجل تنسف الأساس الذي تقوم عليه فكرة الديمقراطية. الأساس الفلسفي للديمقراطية يعتبر أي قول حول عدم قدرة المرأة وعدم جدراتها التي ترد في بعض التفسيرات المتطرفة للإسلام، إفكا تاريخيا بحاجة إلى التصحيح وليس الترسيم.

لإيجادل أحد في ان الثورة الحقيقية إطلاقا لا يقتصر تأثيرها على السياسي، فالثورة الحقيقة هي نتيجة إشكالات عميقة في بنية المجتمع قبل أن تكون إشكالات في بنية السلطة وبالتالي مالم يكن التغيير يطال البنية الاجتماعية وينفذ من القشرة السياسية إلى التربة المجتمعية التي تنغرس فيها كافة أشكال العمل السياسي، إذا لم تكن الثورة بهذا العمق فهي قبض ريح ومطر صيف. فلا يمكن لمجتمع أن يدعي أنه قام بثورة عظيمة ولازالت المرأة في وضعية دونية تجاه الرجل.

قضايا كثيرة تكرس دونية المرأة في المجتمعات العربية وهي بحاجة إلى مراجعة فقهية شاملة، أو على الأقل يتوقف الهجوم المضاد الوهابي على الشيعة.. هذه الحرب يحب أن نعتزلها كما اعتزل الحارث بن عباد حرب بكر وتغلب.. فهي حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
يقول ابن عربي: المكان الذي لايؤنث لايعول عليه. ولا نريد أن نقع في خطأ التأويل الذي كان ابن عربي أكبر ضحاياه، نحن أبناء العصر وسنقول بموت المؤلف وحياة النص. أليس هذا قول العلامة رائد النقد رولان بارت..

لكن المكان الذي تدخلة البندقية وتصبح فوهات البنادق لها الكلمة العليا، وتصبح العضلة الميليشاوية هي المتحكمة، لا يمكن أن تمتلك المرأة التأثير الذي تمنحه إياه قواعد الديمقراطية، وجود السلاح في الفضاء العام يخل بمبدأ أساسي في العمل الديمقراطي وهو حرية الإرادة و حرية التعبير. فكانت النتيجة أن انسحبت المرأة من ساحة التداول السياسي العنيف، لكن قطعا المرأة هي المارد النائم الذي لا يحسب له أحد حسابا. فالمرأة تنتظر أن يكون لصوتها وزن يوازي حملة البنادق تقلب الطاولة عليهم جميعا، الرهان على المرأة كبير فهي لن تركن إلا إلى دولة مدنية لا دولة إسلامية ولا دولة الأحذية الثقيلة. صوت المرأة - ليس عورة بالمناسبة -هو الذي سيكون المدافع عن الحريات، لأن معاناتها أشد حال انحسار الحريات أو غيابها.

لا يمكن لمجتمعنا أن يسابق المجتمعات الأخرى برئة واحدة. فلابد للرئة الثانية أن تخفق وتتنسم أنسام الحرية وتشارك في تحمل مشاق مارثوننا الصعب. فمن الغباء المطلق مواصلة المارثون برئة واحدة وحيدة.