Atwasat

الحرب الليبية العظمى

نورالدين خليفة النمر الأحد 18 نوفمبر 2018, 10:45 صباحا
نورالدين خليفة النمر

خدم الحظ كما هو التاريخ أن تكون القضية الليبية في ضوء الاهتمام الدولي، وأن يتواقت التئام مؤتمر باليرمو بإيطاليا الباحث عن حلّحلة أزمتها السياسية، مع الاحتفال بإحياء الذكرى المئوية للهدنة التي وضعت نهاية الحرب العالمية الأولى 11 نوفمبر 1918. وقد وجهت المشاركة الرسمية الليبية، ممثلة في حكومة التوافق المعترف بها دوليا. رسالة تأكيد لعودة سلسة لصورة ليبيا المدنية عبر عاصمتها التاريخية طرابلس إلى المجتمع الدولي. من نافذة السياسة وتوخي المشاركة في اهتمامات العالم بالسلم، والتسامح، والديمقراطية. وهو ماعبرّت عنه المساهمة في منتدى دولي كُرّس لمسائل تتعلق بالحوكمة العالمية والسلام، والتعاون وحرية التعبير.

ولمناقشة تراجع النظام العالمي متعدد الأطراف. وهو الشاغل المُقلق الذي دعا الرئيس الفرنسي في كلمته أمام ضيوفه إلى نبذ "الانطواء والعنف والهيمنة" وحذّر من النزعة القومية، واصفها وقد عادت التوجهات الشعبوية تلبستها اليوم في الغرب الرأسمالي بأنها نقيض الوطنية تماما، بل هي خيانة لها. الذي لفت نظر الكتاب المتابعين للاحتفالية أنها تتذكر حرباً، ولكن مميزها احتفالها بالسلام. ففيها شارك المنتصرون والمنهزمون على حد سواء. وليبيا التي تواقتا مع الحرب العظمى حدث استعمارها مع حدث تسمية كيانها الإقليمي الذي صارمصيرها تحتفل مع بلدان المستعمرات في أفريقيا والشرق الأوسط التي عانت وقتها ظروف الحرب والسلم، وسيّقدر لها أن تحتفل في السنوات القادمة بمئوية الحرب العالمية الثانية في مشهدية الكوميديا البشرية ذاتها بعنوان رواية الكاتب الفرنسي أونوريه دي بلزاك.

غيرت الحرب العظمى مسار تاريخ السياسة الدولية، فقد أدت إلى انهيار 4 إمبراطوريات، وشهدت تفتت دول، وقيام أخرى. وفيما يخص العرب والمسلمين أن الإمبراطورية العثمانية خاضت هذه الحرب باسم رهط منهم إلى جانب ألمانيا، وشتت جيوشها على جبهات عدة، فمنيت بهزيمة فادحة على الجبهة الروسية، حيث قتل 90 ألف جندي عثماني، وتمزقت خلافتها الإسلامية التي تقاسمها البريطانيون والفرنسيون. مما اضطرها في نهاية الأمر إلى الانسحاب من الحرب، حيث تم التوقيع على هدنة مودروس في 30 أكتوبر 1918، فانتهت العمليات القتالية وأعقبها احتلال الحلفاء لإسطنبول، وتقسيم إمبراطورية المريض الذي لفظ أنفاسه ماقبل الأخيرة، لكن الهدنة ألغيت لاحقا عقب انتصار الأتراك في حرب الاستقلال التركية.

قبل توقيع اتفاقية لوزان الأولى في 17 أكتوبر 1912 أحاطت بتركيا ظروف دفعتها أن تكون على أهبة التوّرط في حرب البلقان الأولى، بل إنها انزلقت إلى معترك الحرب نهاية أكتوبر1914 مدركة أن القوى الأوروبية سوف لن تمالئها في خيارها، وفي الوقت نفسه كان الغزو الإيطالي هبة رديئة في منظور مصالحها، ولو أتيح للأتراك تعزيز قوّاتهم المعسكرة في ليبيا، لربما استطاعوا مواصلة الحرب، ولكن هذا لن يتأتى عن طريق البحر، ولن يمر أيضاً عبر مصر فبريطانيا لن تسمح بذلك مانعة الإحراج عن الخديوي أمام طلب تركيا التي لم يعد أمامها إلا الدخول في التفاوض. وقد عزمت على التوصل إلى تدبير مؤقت مع إيطاليا التي توجهت قبل سنة بأسطولها لاحتلال طرابلس الغرب آخر إيالاتها. وفي 15 أكتوبر 1912، أصدرالسلطان فرمانا تمّ بموجبه منح الحكم الذاتي الكامل لكل من طرابلس الغرب وبرقة، مولياً حماية المصالح العثمانية في الولايتين إلى نائب السلطان. وبعده أصدر ملك إيطاليا مرسوماً يُرسي به قواعد، وشروط الحكم الذاتي الجديد على أساس السيادة الإيطالية، وتحديد مهمة الممثل التركي. هذا التفاهم المبدئي شكل جزءاً من اتفاقية لوزان الرسمية،وقد وعدت تركيا بسحب جميع قواتها المسلحة من ليبيا ومقابل هذا الأجراء وافق الإيطاليون على إعادة جزر الدوديكانز التي أحتلوها أثناء الحرب إلى تركيا.

ولكن بالتوقيع على معاهدة لوزان الأولى في 1912. تحوّل مسار الصراع ليكون ليبياً ـ إيطالياً نتجت عنه ما يمكن وصفه بولادة كيان إقليم ليبي مستقل. فتظهر طرابلس الغرب المُسمى العثماني لماسيصير بالاستعمار الوطنية الليبية التي سيتوج مسارها عام 1951 في دولة مستقلة حُرة لها مقعد في الأمم المتحدة التي تبنت حسب توافقات الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية تحقيق استقلالها وسيادتها، والتي ماتنفك الديموغوجيات تزعجها طوال الـ 18 سنة من عمرها وتنكّد عليها بالقومجيات بل ستفترسها من عام 1969 إلى 2011 بالانقلاب العسكرتيرياري ومابعده بالدكتاتورية المتوغل فيها المنزع الأتوقراطي الفوضوي، ومن 2011 إلى 2018 بالجهويات والقبائليات والأنكى الإسلامويات ومنها العثمانية المتقمصة وهمية حزب الأخوان المسلمين وملحقاته التطرفية المعادية للدولة المدنية بالمفهوم الديمقراطي الغربي.

جريا على الرؤية الخلدونية للتاريخ، فإن عناصره الأساسيّة هي: الإنسان، والماضي، والتقلّب في الزمن، وهي العناصر المرصودة لمفهومه من قبل الباحثين السابقين عليه، ولكن ابن خلدون زاد علىها ماتعلّق بالمجتمعية الإنسانية في منزعها الفكري لاكتشاف الأسباب، والتفلسف بسؤال الدهشة والتعليل للموقف الذي يعبر عن الإنسان مثقفاً وسياسياً نخبويا يقود مواطنيه إلى أهدافهم. وبناءً على هذا سنبرز ثلاثة مواقف غداة الإنزال العسكري الإيطالي أكتوبر 1911 ميزناها تقريبا وترتيباً بالإسلامية، والعثمانية، والوطنية :
ـ الإسلامية عبرّت عنها الحركة السنوسية، وقد تفهمها الإيطاليون كظاهرة مقاومة انتظمتها البنائيات القبلية في برقة وامتدادتها الشحيحة المتبدّية في جنوب غرب ليبيا، ولكن رغم تدفّق المتطوعين على ممثلها وزعيمها أحمد الشريف من بنغازي ودواخل الريف والبادية إلا أنه كان متردداً. وحتى نهاية نوفمبر عقد القادة الإيطاليون الأمل على تعاونه معهم. ولكن صعود المتجهات المجدّدة لهوّية إسلامية عثمانية إزاء الانتظامات الدولية التي أنذرت بالحرب العالمية الأولى ونعني بها الممثلة في حركة تشكيلاتي مخصوص، في شرق ليبيا بمغامرة الضابط العسكري أنور باشا الذي زاره في الجغبوب، فكان تأثيره علي السنوسي أن أعلن جهاده. وبالرغم من ولاء قبيلة العواقير المطلق للسنوسية، إلا أن فروعاً مهمة منها لم تنضم بحماس جياش للمقاومة حتى شهر يناير 1912بعد أن حثها أحمدالشريف نفسه بمنشور واعدها بنزوله بشخصه في أوار المعركة .
ـ العثمانية، مثلها بغموض المثقف المتبحر في فقه الإباضية، الأديب والصحفي المغاربي المرموق سليمان باشا الباروني. الذي عثمانيته صاغتها تسميته عضواً في مجلس المبعوثان، وظيفة استثمرها كقائد عسكري ميداني، وسياسي برغماتي تميّز بالذكاء؛ بل الدهاء في أن يدير مستنداً على فرمان السلطان بمنح ليبيا مبدأ الحكم الذاتي ببراعة نشاطه في التواصلات بين سنوسية برقة والباب العالي، بل أن يتصرف في الأموال والأسلحة التركية لإغراء أنصاره ليلعب دوراً سياسيا باسم الدولة العثمانية في الغرب الليبي وهو ما ألب عليه مشائخ المكونات العربية حضرا وبدوا، بل جرؤ مخاطباً وزراء خارجية الدول الأوروبية لتعترف به رئيس الحكومة المستقلة المؤقتة، بل طمح في خطوة سياسية لافته إلى مشروع إنشاء ولاية بربرية في الشمال الأفريقي، الأمر الذي ألجأ إيطاليا لمفاوضته، وممثليه في تونس وباريس، ولكن احتلال يفرن معقله بجبل طرابلس عام 1913 أدى إلى انهيار الاتفاقات جميعها .
ـ الوطنية: وتمثلت في التفاوضية التي اشترعها فرحات الزاوي مع إيطاليا معتمدة الفرمان العثماني بمبدأ الحكم الذاتي، والمرسوم الإيطالي لإرساء قواعده، وشروطه بما يتوافق والسيادة الإيطالية. كان الزاوي مثقفاً أوفدته حكومة البايات في تونس لدرس القانون في باريس، وكان ملماً بحكم تضلعه في القانون واللغة الفرنسية بالصيغة الحمائية التي أخضعت بها فرنسا تونس. وعقد الأمل على متبدّيات الوصاية الأوروبية عبر التعاون في صيغة مُستعِمر ـ مُستَعمَر.

عّقدت في نوفمبر 1912بعد اتفاقية لوزان المفاوضات بين الحكومة الإيطالية والأعيان. ترجم عن الإيطالية الباحث المخضرم مفتاح السيد الشريف مناقشاتها بتفاصيلها في إحدى الجلسات يشير المفاوض تارديتى إلى الاعتراف المبدئي بالمساواة بين الإيطاليين والأهالي (الليبيين)، والقوانين التي يشرع في تطبيقها مثل قانون الانتخابات، ويعلّق على النقطة التي أثارها فرحات الزاوي بعدم التفريق في التدرّج في السلك العسكري، بأنه تناهى إليه تمنع القبائل خارج طرابلس عن الاتخراط في التجنيد العسكري الإلزامي. يرد عليه فرحات، ربما ملمّحاً إلى رؤساء الدواخل ـ ربما الذين أدرجناهم في الإسلامية والعثمانية ـ بأن فئة من المتنورين عقلياً قد يملكون الفكر ولكن لايعرفون كيف يجعلون الآخرين يتبعونهم، نافيا عنه أن يكون من هذه الفئة، بل من الفئة الأعرف من الوسط الطرابلسي، لتحملهم المسؤولية، وإن كانوا ظاهرياً محل انتقاد، فيتركون المستقبل لإصدار الحكم.