Atwasat

الموت فى نوفمبر

سالم الكبتي الأربعاء 14 نوفمبر 2018, 01:12 مساء
سالم الكبتي

تلتقي في بنغازى تلك الأيام مجموعة من الطلبة من مختلف المناطق من الشرق والغرب والجنوب. أواخر الأربعينيات وأعوام الخمسينيات. تجمعهم المدينة الصغيرة وتضمهم معا. يتعلمون فى مدرستها الثانوية الوحيدة. أحلام تنطلق وخطوات تلهث ونظرات تتطلع إلى البعيد.
كانوا في معظمهم يمثلون جيل الثلاثينيات الذي نهض بعد رماد الحرب العالمية الثانية وقد تعلق سخامه بثيابهم البالية. بعضهم يسكن لدى اأقارب له ويقتسم معهم رغيف الخبز وصحن الزيت. بعضهم الآخر يقيم في القسم الداخلي التابع للمعارف في توريللي على شاطيء البحر الطويل. كانت ثكنة أيام الطليان الذين أطلقوا اسم أحد قادتهم العسكريين المشهورين عليها بعد مقتله في معركة مع المقاومة الوطنية عبر سهول الجبل الأخضر.

تنعقد بين أولئك الطلبة صداقات وخيوط ود تدوم ولاتنقطع. كان للصداقة معنى طيب يحترمه أبناء جيل متعدد ومتباين نشأ في مدينة فارغة إلا من آثار الحرب والمجاعة. جيل، في جملة واحدة، ظروفه بائسة وفقيرة ومعقدة وصعبة. ارتعاشات الخطوات كثيرة والأحلام تقصر دونها الطموحات. لكنه ظل في الواقع جيلا في بعض أبنائه متميزا يتحرك ويتطور ويقرأ ويهضم مايصل إليه.

هذا الجيل.. هذا المكون وهذه المحطة المهمة كان من بينه الصادق النيهوم الذي تجاوز رغم صغر سنه بقراءاته وثقافته وأسئلته المهمة المجتمع الذى يعيشه كما يشهد به الكثير آنذاك. تجاوز أفكار ذلك المجتمع ثم اصطدم به كثيرا في نقطة عدم فهم ولكن دون تكبر أو تعال عليه. النيهوم كان قطعة من جيل يحلم ويبحث عن لقمة خبز هانئة.عن دفء واطمئنان.عن كتاب. عن أجوبة لأسئلة معلقة في الهواء. عن قمر متوهج جنوب السماء، ودائما كان هناك شوق للمعرفة والتحصيل.

هذا الجيل.. منذ صغره فتح بصره على جملة من العادات والتقاليد والسلوكيات الثابتة والتعليمات الصارمة في الأسرة والشارع والجامع والمدرسة وكل المرافق. ولقد نشأ بداية تحت مظلة ثقافة ومعرفة فقيه الجامع البسيط. كان الدين فيها على سبيل المثال مغطى بخرافات وأساطير لاحد لها وارتبطت به في اأذهان العامة وهو بريء منها كما أنزله الله جملة وتفصيلا. حكايات صار لها من القداسة والوقار والرهبة الكثير.. الحنش المرابط. راية الحجاج البيضاء. السدره المرابطه. اْمنا سدينا. إيقاد الشموع والبخور. الحلف بالمرابطين. أضرحة الأولياء المتحفزة في كل دروب المدينة. كتابة الأحجبة وأشياء أخرى كثيرة. وهكذا.. تولدت نقاط الاصطدام وحدث التأثر بالقراءات والثقافات والأفكار وما كان يعتري العالم والمنطقة من أحداث وأجواء مختلفة.

ومن تلك الظروف انطلق النيهوم وجيله يقتحمون المجاهل ويحاولون التنوير وتحكيم العقل والنظر إلى دين الله القويم بأنه رسالة الحياة الرحبة وأنه منهج ينظم سلوك البشر دون تعصب أو انغلاق ويهذب تلك الحياة ليبقى على الدوام مثلا رائعا لمعاني الخير والحرية والإنسانية وأنه ليس ثمة فرق بين الخلق إلا بالتقوى والعمل الصالح. وقياسا إلى ذلك كانت نظرات وملامح بنفس المقدار توجه من المجتمع إلى كل الأمور المتعلقة بنظمه الثابتة وعلاقات أفراده ونسيجه الذي يصعب في أحيان عديدة النظر إليه بعين الفحص والكشف والنقد.

في تلك المدرسة ثم في الجامعة التقى الثلاثة: الصادق رجب النيهوم ومحمد حسين القزيري وأسعد أحمد المسعودي. جمعتهم ظروف واحدة وأحلام واحدة وخطوات واحدة. كانوا مواهب فخمة تسير بلا انقطاع. كل منهم ولد فى العام 1937. وجميعهم تخرج فى كلية الآداب بالجامعة الليبية. أوسطهم القزيري سبقهم في التخرج ضمن الدفعة الأولى للكلية عام 1959 من قسم اللغة الإنجليزية واختير معيدا وأوفد للدراسة العليا في الولايات المتحدة ولم يكمل لظروفه الخاصة. اختار الوظيفة وكان مثقفا راقيا اشتغل في شركة إسو ثم في غرفة التجارة والصناعة وقضى بقية حياته في بريطانيا، وظلت ترجماته إلى العربية تتسم بروح تحمل نكهة خاصة تختلف كثيرا عن الترجمات التقليدية الجامدة بل تكاد تقارب فى لغتها وترجمتها منير البعلبكي. وتخرج المسعودي في القسم نفسه ضمن الدفعة الثالثة عام 1961 وكان فنانا ذواقة يتسم بالخط الجميل والتعامل الراقي. نقش وكتب اللوحات التذكارية داخل ضريح عمر المختار في بنغازى وصمم شعار الجامعة الليبية التي عمل مسجلا عاما لفرعها في طرابلس وشعار الخطوط الجوية الملكية الليبية إضافة إلى أنه تولى كتابة خطوط الصفحات الأولى لبعض الصحف والكثير من شهادات التخرج و البراءة والمراسيم الملكية.

اْما النيهوم فقد اختلف عنهم في التخصص. تخرج أيضا في الدفعة الثالثة ولكن من قسم اللغة العربية واختير معيدا. ثم أرسل للدراسة العليا فى ألمانيا أولا وبعدها مصر ولم يكمل أيضا لانصرافه للكتابة فى صحيفة الحقيقة. وجد نفسه وسط الحروف والكلمات المتوهجة بدلا من المدرجات والمناهج الجامدة. جمعت هؤلاء الثلاثة الجامعة والكلية واختلفوا في التخصص. لكنهم اتفقوا في التذوق والقراءة والموهبة وصوت فيروز والخط الجميل. كانوا صورة من صور جيل أنجبته ليبيا تلك الأيام ولم تتوقف رغم الليالي الحالكات.
في نهاية المطاف اْتفقوا في الرحيل أيضا. في نوفمبر بالذات. الشهر الذي تشقه المحاريث وتخترق باطن الأرض مع هطول المطر. وكان أسبقهم إلى الموت النيهوم في الخامس عشر من نوفمبر 1994 في جنيف ثم القزيري في الخامس عشر من نوفمبر 2007 في بريطانيا ثم المسعودي في الثانى عشر من نوفمبر 2010 بطرابلس.

وفي وجه أخر للصداقة الطويلة بينهم تبرز مجموعة من الرسائل الخاصة فيما بينهم تحوي الكثير من المودة والمعاني والطرائف والفضفضة والبوح الصريح وعلامات التمرد والسخرية من الواقع. وعلى سبيل المثال في هذا المجال هنا بعث النيهوم إحداها إلى القزيري من هلسنكي مؤرخة فى 11 ديسمبر 1967 وكتب في سطورها:
(أخى محمد تحية طيبة كالعادة. ساعي البريد يطاردني بنسخ من جريدة طرابلس الغرب معبأة بالشتائم إلى حافتها ورأس فقي مقطوع يقطر دما ويطلع لسانه للمارة. والثلج ابن العاهرة يتسلل داخل حذائي والمطر أيضا. أهم مافي الأمر أن رسالتك وصلت. وأن أحد الأصدقاء روى لي ذات مرة أن أسعد المسعودي صعد فوق بسكولة ليعرف ميزانه بالتقريب وكم كانت دهشته ودهشة الحاضرين أيضا عندما اهتزت البسكوله وأغرقت في الضحك. والواقع أننى سمعت كثيرا من القصص غير الودية عن ميزان أسعد ولكني لم أعرف قط اْنه صار أضحوكة فى أفواه البسكولات وأن الأمر قد تطور إلى حد أن صديقنا أسعد لم يعد يدخل دكان بقال إلا أثار عاصفة من الضحك بين الصروف. فمنذ سنوات كنا ندرس معا وكنت أعرف أن أسعد يضع ثقالات في بدلته خلال فصل الشتاء وأنه لايصل في الحصة الأولى إذا هبت الرياح في اتجاه سيدي حسين. وأنه يتشعبط أحيانا وراء دراجات الطلبة دون أن يحسوا به. كنت أعرف معظم الحيل المدهشة التي يلجأ إليها أسعد لشق طريقه في الحياة بغض النظر عن اتجاه الريح ولكنى لم أعرف قط أن اْحد اللصوص قد سرقه ذات مرة باعتباره مما خف حمله وغلا ثمنه حتى انتشرت القصة المعروفة عن العثور على أسعد ضمن المسروقات!

مع ذلك فقد ظللت طوال الوقت أعني طوال سني الدراسة أحاول أن أقنع نفسي بأن صديقي أسعد الذي يجلس بجانبى مخلوق حقيقي من جميع الوجوه خلقه الله لأسباب خاصة في تسعة أيام بدل تسعة أشهر. وكنت على وشك أن أقتنع بهذه الفكرة المعتدلة عندما رأيت ذات يوم وبعيني رأسى أن الأستاذ سجله غائبا فيما كان أسعد يصرخ بجانبى: موجود ياسيدي. وأحسست تجاهه بالشفقة وتمنيت أن أضع يدي فوق كتفه مواسيا لولا أنهم كتبوا فوق ظهره في البيت ممنوع اللمس منعا باتا لأسباب تتعلق بتركيب العظام.

أسعد عاش حياة قاسية. ونحن لابد أن ندعو الله على الدوام لكي يأخذ بيده ويعوضه خيرا عن سنوات المشي ضد اتجاه الريح فمد يدك في السماء ياصديقي محمد. دعنا نبدأ حملة الدعاء معا ونجعل النجوم تسقط من الضحك. أما بالنسبة للباقي فلا شيء يهم وليبيا توغل فى البعد. إنها تزداد بعدا كل يوم حتى لتعترينى الدهشة أحيانا عندما أرى اسمها فوق جواز سفري. ثم إننا لم نمت ياجناب الآرشيدق وقد أسفنا لخروجكم من إسو صفر اليدين وأسفنا لما فعلته صروف الدهر بكم وتمنينا لو كان بوسعنا أن نقنع الدهر بأنه أحيانا يخطيء التصرف بطريقة مشينة فالواقع ياصديقنا محمد أنك تستحق أكثر من فرصة طيبة ومع ذلك فأنت لن تنهزم.أنا أعرف هذه الحقيقة وأعرف اْنك ستجد طريقك الأفضل كما فعلت على الدوام).

وبعث باْخرى إلى صديقه المسعودي قائلا خلالها: (أخى أسعد تحية طيبة. وكلمة أخرى أنا أيضا أفتقدك كثيرا أكثر مما أستطيع أن أقول هنا وأفتقد بنغازي والآلات الكاتبة والقزيري ورمضان المعظم وقد حاولت دائما أن أقنع نفسي بالعودة وأتسلل إلى إحدى السفن ثم أسرق قطارا من مدينة هامبورغ وأقوده إلى أثينا وأعبر باقي الطريق سباحة أنا أعرف الطريق والسباحة وأعرف أن غاية السعادة أن يعود المرء إلى بيته ولكني لن أعود لا ليس الآن وليس في العام القادم أو الذي يليه أو بعد مائة سنة أخرى إنني يابديع الساقين لا أملك شيئا أعود من أجله وقد تعلمت خلال هذا التطواف المرهق أن الله يريدني أن أفعل ذلك دائما أن أحرث العالم بقدمي وأقرص كل عجوز أجدها في طريقي وأتحدث مع تماثيل النحاس وأطلع لساني للرجال الذين كانوا يتصورون أنهم يستطيعون تحنيطي في مكان ما مقابل ستين جنيها في الشهر!

أما شهاداتي فسأحتفظ بها لنفسي لأننى لا أزمع أن أعرضها للبيع ولا أن أستبدلها بلقب وكبوط أسود وحقيبة من الورق المقوى وسواء عرف الناس أم لم يعرفوه فإن الله يعرفه. أنا لا أريد أن أثير أحزانك فأبحث عن شيء آخر أعرضه عليك وإذا صدق ظني فأنت ماتزال بخير مادمت تملك وجه أريج وفيروز وأبيات الشعر الرقيقة التي تقال عادة من القلب فاقلب هذه الصفحة واقرأ كل ما تجده من الشعر وتذكرني دائما). لم ينس النيهوم أصدقاءه وظل شهما في ظروف صعبة وقف فيها بكل شجاعة مع فاضل المسعودي الصحفي الوطني أخي أسعد وقفات لايتسع المجال لذكرهاهنا.

وفي نوفمبر. يرحل البجع ويهاجر السنونو إلى أماكن قصية وتخترق المحاريث الأبعاد غب المطر وتسود السماوات ثم ينشق بطنها ليحتضن الأصدقاء الثلاثة ويغمر الحزن العالم بلا انقطاع.