Atwasat

حـزب الزعامة

نورالدين خليفة النمر الأحد 11 نوفمبر 2018, 09:15 صباحا
نورالدين خليفة النمر

أطرّت ليبرالية بريطانيا الدولة المنتدبة على ليبيا عام 1942 الحراك المجتمعي في إقليمي طرابلس وبرقة ذريعة لمنح الاستقلال. بل أمنت المستعمرة الإيطالية السابقة من مشكلة تأسيس الدولة من العدم، فالأمن مستتب بتأهيل الضباط الإنجليز فيالق البوليس الليبي، والجيش سيشرع في تأسيسه أواخر1953 بعقيدة وطنية سلسة أعلنت عنها وزارة الدفاع بقبول الراغبين بالولايات الثلاث، ليكونوا ضباطا فى الجيش والبدء بتدريبهم 1954 الدفعة الأولي 6 أشهر بمدرسة الزاوية الغربية والثانية 1955 بباب قرقارش بطرابلس، وساعد في الأمرين أن لم تحدث فجوة سلطة بانتهاء الاحتلال الإيطالي تسمح بالانقسام المجتمعي والأقاليمي، وأن البلاد غير مطموع فيها، لشُح مواردها، وغيرمهددة من بلدان الجوار التي مازال بعضها مستعمراً ومصر الموصى عليها بريطانياً.

طرحت مسألة استعادة واحة الجغبوب بغرض حُسبان دور لها في استقلال ليبيا لدعم نفوذها في الجامعة العربية الوليدة. والأهم أن القوات العسكرية الأجنبية الموجودة على الأرض لاتجرِّؤ أحداً على المحاولة أو التفكير فيها. والأهم أنه لم توجد مشكلة في إدارة دولة الاستقلال الغض. فالآساس موجود يمثله نظام مالي وجبائي مُدّقق أنعشته الموارد التي استجدتها الاتفاقيات بتأجير أراض لقواعد عسكرية لبريطانيا وآميركا.

أما نظام الخدمات في القطاعين: الصحة قاعدته المادية المتينة موجودة على طول البلاد من العهد الاستعماري، والتعليم أيضا وقد دُعما باتفاقيات مع الأمم المتحدة المتبنية لاستقلال ليبيا عبر مؤسساتها ومنظماتها العالمية كمنظمات الصحة، والأغذية واليونسكو التعليمية والنقطة الرابعة للمساعدات الأميركية ، والخدمات كانت تقدم من خلالها بعدالة لكل الليبيين.

العملية الدستورية كانت الشئ الجديد الذي اشترعه استقلال البلاد، افتراضيا كان ينبغي أن يُكتب الدستور بإرادة الليبيين، وأن تُجرى على ضوئه، انتخابات حرة نزيهة، مؤسسة على تعددية حزبية، وسياسية مقننة، تقودها معارضة معترف بها. إلا أن الدستور الذي نالت به دولة الاستقلال مشروعيتها أمام المجتمع الدولي شرعن الإمارة كحقيقة ليست محل نقاش بعد امتصاصها للسياسة العفوية في إقليم برقة، وأظهر الحكومة الاتحادية أمام الأحزاب الطرابلسية التي لم تعُد لها أهدافا بعد تحقق الاستقلال مديرة لسياسة الدولة الداخلية والخارجية. بينما تُرك البرلمان لمصيره الغامض إزاء مفاجآت الانتخابات.

إن الاستعجال كان الداعي الذي أحبط الأحزاب بدءاً من تحقيق هدفها لاجراء انتخابات للجمعية التأسيسية لوضع الدستور الليبي، والحجة ضيق الوقت وتحديد موعد الاستقلال من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في موعد أقصاه أول يناير سنة 1952 فكان الإجراء الأممي أن تتألف الجمعية التأسيسية بالتعيين وبالتساوي بين الولايات العسكرية الثلات. وفي السياق نفسه استعجل أيضاً الشروع في الإعداد للانتخابات العامة في البلاد، التي تحدّد موعدها يوم 19 فبراير عام 1952.

أولى المفارقات: أن بدأ حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي وزعيمه حملته الانتخابية بالتهجم على النظام الاتحادي الذي تألفت جمعيته التأسيسية بالتعيين وبالتساوي بين الولايات الثلاث دون مراعاة لأغلبية طرابلس السكانية ومواردها وتحضر سكانها، وتبلور نخبتها السياسية. وبسبب تصدّعه بين رافض ومؤيد، كان المؤتمر الوطني الطرابلسي يخفق بجناح واحد يضم جماهير الشعب التي بقيت مخلصة لحزب الزعامة. أما الجناح الذي ضم أصحاب المصالح من الأعيان والموظفين السامين بالإدارة البريطانية المنتدبة، وكبار التجار، وقد انفصلوا تحت رئاسة مفتي البلاد فكان جناحهم بخفق حسب التوجيهات الإدارية للحكومة الفدرالية لحكومات الولايات الثلاث المدعومة من الملك وبريطانيا.

المفارقة الثانية أن حزب المؤتمر دخل في الحقيقة الحملة الانتخابية ليس منافساً لأحزاب لم تعد فعلياً موجودة، بل غريماً سياسيا لحكومة متنفذة اخترق نفوذها الحزب الذي صار وحيداً، ومصدوعاً، ومتوحداً في زعامته إزاءها. وبالرغم من أن حزب المؤتمر نافس الحكومة على كل مقعد من مقاعد طرابلس الخمسة والثلاثين إلا أن الحكومة التي ترأسها محمود المنتصر فازت بأربعة وأربعين مقعداً من بين مقاعد المجلس وعددها 55 مقعداَ، ولم يظفر حزب المؤتمر بأكثر من سبعة مقاعد، وفي 20 ـ 21 فبراير 1952 عمت المظاهرات طرابلس واتهمت الحكومة، بدون دلائل بائنة، بتزوير الانتخابات. وألقي القبض على عدد من القيادات الشعبية ونفي زعيم الحزب كونه مواطناً سعودياً إلى المملكة السعودية حيث عمل سابقاً مستشارا لمليكها المؤسس.

اختصار برقة بلا أحزاب سياسة في شخصية الأمير السنوسي، واختصار الأحزاب الطرابلسية في حزب المؤتمر الوطني، والذي بعد انشقاق طبقته السياسية عنه، اختصر في زعامته، التي بإجراء حكومي تم إبعادها إلى المنفى، لم يعد في ليبيا للسياسة والانتخابات ملكوت. فكان ضمنيا قرار حل الأحزاب بعد تفريغها من مضمونها، بإجهاض الديمقراطية الممكنة في برلمان صوري لامهمة دستورية له.

كثيراً ماتم تناول إلغاء ما تووضع عليه بالأحزاب، دون النظر إليها بأنها مؤقتة بالاستقلال، وبشخصنتها بزعاماتها، بل شطبها بحادثة نفي حزب الزعامة، وتم إغفال الواقع الاجتماعي الذي تسوده الظروف المادية وتهيمن عليه طبقة الأعيان "الكولوغلية" المتنفذة، عبر صعود جيلها الثاني، الذي أظهر كفاءته ليس في التجارة موروثه العائلي بل أيضا في إدارة الدولة.

فقد نجحت السنوسية أن تكون الدين الشعبي لبدو برقة وأريافها، بل أن تتوغل في إقطاعيات الجنوب البدوية، بينما الطبقة الكولوغلية المصراتية ـ الطرابلسية وامتدادها في بنغازي ودرنة، كانت مهيأة لنيل نصيبها في المحاصصة ممثلة في عائلة المنتصر التي لم يعد عميدها سالم المنتصر وحزبه الاستقلال لولائه المعلن لإيطاليا جديراً بزعامتها. فأوصى البريطانيون بابن أخيه الذي كان غير منضوٍ في حزب عمه الاستقلال، والذي عمل مع الإنجليز في حكومة طرابلس الانتدابية وكان فاعلاً في هيئة التحرير الطرابلسية التي أسس لها السعداوي قبل أن يتأسس حزب المؤتمر.

كما أن الكولوغلية الجديدة ارتضت بالإمارة السنوسية أن تكون مملكتها وهي حكومتها. وبهذا نتفهم إجماع ثلاثي الاستقلال الليبي الملك وطبقة الأعيان وبريطانيا المحرّرة على إخراج زعيم حزب المؤتمر والحزب والأحزاب التي اختصرها في إهابه من الحياة السياسية فرضخ وجماهيره التي استنفدت حماسها معركة الاستقلال ووجدت أمامها دولة تلبي احتياجاتها بالإمكانيات والموارد الشحيحة هي الأخرى رضخت للإخراج. البريطانيون الذين هندسوا لهذا الإخراج كانوا يريدون إبعاد نفوذ إيطاليا المتبقي عبر حزب الاستقلال وزعيمه سالم المنتصر، ويريدون إبعاد السعداوي ومن ورائه عبدالرحمن عزام وتأثير الجامعة العربية، وإرضاء قولوغلية مصراتة ـ طرابلس بتثبيت محمود المنتصر ممثلاً لجيل جديد مؤهل للانخراط في الترتيبات البريطانية.

خرج السعداويالذي دخل بشخصه وكفاءته السياسة غير الكافية في السياسة التي يحكمها الثقل الاجتماعي الجهوي والقبلين بينما تتثبت شرعية الملك إدريس فكان اللاعب من الخلف في إحكام توازن المنافسة بين البرقاوية التي رأسها بعض مشائخ القبائل الموالين للسنوسية بإدارة ناظر الخاصة الملكية وفيما بعد أبناؤه وبين المصراتية ـ الطرابلسية ممثلة في محمود المنتصر وعائلته المتشابكة مجتمعيا بالعوائل الطرابلسية. والنتائج تصب في المصلحة البريطانية. أما المضادات المحلية للديمقراطية والتعددية الحزبية المنتجة لدولة مدنية توفرت شروطها في ليبيا وتأكدت بظهور الريع النفطي بداية الستينات. فيتم استبدالها بالقومجيات والعروبيات الواهمة التي تتفاعل في الخلف، لتظهر بوجهها المشؤوم في سبتمبر 1969 عام الانقلاب حيث ورث عبره الاستعمار الجديد كل مصالح الاستعمار القديم .