Atwasat

مجتمع التبرير

نورالدين خليفة النمر الأحد 04 نوفمبر 2018, 10:12 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يتشكل مجتمع الكلام بديلاً عن مجتمع الفعل، حيث يدخل الأفراد في صور التفاعل المتكرر المنتظم الذي يرتبط فيه الإنسان بذهنية مُعمّمة تحدد فيها المجتمعية للأعضاء الأشكال اللغوية الملائمة للاستخدام والمعبرة عن النوايا التي تكذبها وقائع وحقائق العالم الموضوعي الملموس الذي يجافي صيغة اختلاق الأعذار، والتسويغ والتبرير كونها جزءاً من المعرفة الخاطئة المؤسسة اجتماعياً للتنصل من المسؤولية الفردية والعامة، والمعروفة والمُعبر عنها بعفوية الاعتياد الذي صار ما يشبه الطبيعة أو بالأحرى، الفطرة الثانية.

وإذا كان التبرير justification في مجتمع الفعل يكون المدخل لفهم الآخرين، ولفهم الإنسان لذاته، ويستخدم استثناءً لتخفيف المواجع وتلطيف المواقف، فإنه في مجتمع الكلام الذي لايعمل أصحابه شيئاً مفيداً لمجتمعهم، بل يعملون مثابرين للإضرار به وبأنفسهم، يكون استخذام التبرير بمبالغة الحديث والوصف والكلام مصحوباً بالكذب والنفاق، من أجل إدارة المواقف الاجتماعية التي تحكمها الأنانيات والتحيزات وكل ضروب عمى البصيرة فيما نسميه غالبا بالفوضى المجتمعية المُعممة.

نرصد آلية التبرير في تقرير عن بوابة الوسط 21 أكتوبر 2018 لمراسلها في بلدة بن جوّاد، واحدة من بلدات خليج سرت الذي يشمل بلدات كالوشكة وبونجيم والهيشة والبويرات وسرت وبن جواد وإجدابياً، والمعروفة تاريخياً قبل اكتشاف النفط وبعده بأنها مناطق رعاة الإبل. إلا أن بن جواد، شابهت دافنية مصراتة باختيارها محطة راحة لسائقي شاحنات النفط، وحافلات النقل الريفي الساحلي والمتجهة للجنوب، لهم وبالتبعية لركابهم ، وهو الغرض الذي نشأت عليه مرافق خدمة مطعم أساسه حتى الـ60 نيات من القرن الـ 20 إيطالي تحت إسم "الماما" ثم فيما بعدجامع بدورات مياه ودكان بقالة، وهو ماعاصرته طالباً جامعياً من عام 1974 حتى 1978، ومن 1987 حتى2000 موظفاً منكوداً بفوضى الإدارة وبعدها مبتعثاً مقدوراُ بالتعويق بإيقاف المنحة لدراستي العليا في ألمانيا.

يسرد التقرير الصحفي وصفاً لأعمال نقل الرمال التي غالبا ما تسد الطريق في هذه البلدات، وهو ماخبرته شخصياً عند ترددي على سرت التي اصطنعها وقتها عام 1987 تعسّف القبائلية والدكتاتورية العاصمة السياسية والإدارية لليبيا. والعمل الموصوف في التقرير تقوم به جنوب الطريق شركة الخدمات العامة ببن جوّاد، إذ توقفت الشاحنة المستخدمة لنقل الرمل على منحدر مقابل لمدخل مدرسة سكينة بنت الحسين، وكانت رافعة تقوم بتعبئتها فتحركت الشاحنة بمفردها منحدرة باتجاه المدرسة وعبرت الطريق الساحلي والحديقة وسياج خرساني بارتفاع 5 سم، واخترقت الجدار لتتوقف في منتصف معمل الكيمياء محطمته، كما هشمت مصطدمة بها السيارات بدون سواقين الواقفة في طريقها. سائق الشاحنة كان خارجها وعند تحركها لحق بها، لكنه لم يفلح بالصعود إليها وإيقافها فأوقعت الحادث في الفترة المسائية بعد خروج الطلبة من المدرسة دون التسبب في أضرار بشرية في صفوفهم، والعاملين بها.

نكون يوم 24 أكتوبر 2018 على موعد مع الحدث الثاني المبني للمجهول البشري ببلدية الكفرة جنوب شرق ليبيا أمام مديرية الأمن، فعلى لسان الناطق باسمها، فإن شاحنة بخزان وقفت فوق ماجن للصرف الصحي، واستعدت لشفط محتوياته، فانهار السطح مُسقطاً، نصف الشاحنة في العفن. في حادثة الغرق المُعلن هذه: مديرية الأمن خاطبت مُسبقاً الجهات المختصة بوزارة الداخلية بالحكومة المؤقتة في الشرق الليبي بشأن التهالك في أبنية مرافق الأمن بالكفرة. ولكن الوزارة تصرفت بحكم أن تفريغ خزان الصرف الصحي مهمة عاجلة لاتنتظر التأجيل تحوّطاً للأضرار الناتجة عنه، والسائق لم يطلب تأكيداً مكتوباً بصلاحية سطح الخزان للوقوف عليه بشاحنة ثقيلة. فالشاحنة ملك حكومة مجرّدة. والتبرير في الوصف كسابقه يقوم على إخلاء المسؤولية البشرية، فالقضيية الثانية كالأولى تقيّد ضد المجهول غير البشري.

يتجاوز الوصف هنا الشكل الرابع من التبريرات التي حدّدها مارفين سكوت في مجتمع الفعل: اللجوء إلى كبش الفداء، ويقصد به إلقاء التبعة على الشخص غير المهم في المجموعة لتبرئة الفاعل الأزيد أهمية من الذنب وعدم تحميله مسؤولية خطئه، ففي الوصف الآنف المشحون بحمولة التبرير الضمنى لمجتمع الكلام نحن لانرى إلا شاحنة تابعة لجهة عامة، تتحطم وتحطم وممتلكات أشخاص ودولة يقع عليها الفعل التحطيمي، والسائق الذي لم يعقل راحلته أو شاحنته، توكل بأن حاول ركوبها وإيقافها فلم يستطع اللحاق بها وهي تسير بسرعة إلى هدفها المقصود.

وهناك، زيادة على محددات مارفين سكوت، محددان: ـ المتعلق بمسألة قبول التبرير؛ أي خصائص السياق الاجتماعي، أو الفضاء الذي يقدم فيه التبرير والذي يكون ضمنياً مقبولاُ من المتلقين. وفي الوصف النموذجي المتعلّق بحادثة بن جواد البدء بالنية الوطنية للبلدية التي عبر الشركةالعامة للخدمات، تعمل في بلاد تهيمن عليها العطالة عن العمل والكل يتقاضى المرتب ورفع القمامة من أكبر مشاكلها من العاصمة طرابلس التي يوجد بها المجلسين الرئاسي والأعلى المُلفقين للدولة الميتة، حتى طبرق في أقصى الشرق التي يقبع فيها البرلمان المعطل نفسه عن العمل كالميت في حياته. ـ والمحدّد الأمثل أن الضررَ أحدثه شئ،هو "الشاحنة"، وكان في أشياء: سيارات، وسور المدرسة وجدارها، ومعملها الكيميائي الذي تحطمت محتوياته بالكامل.

وهو يعني بذلك مجتمع الفعل فيما أشار إليه جميل صليبا في “المعجم الفلسفي”: فـ “الغرض من التبرير إيقاع التعليق والارتباط بين الواقع والحق، أي ذكر الأسباب التي تبيح الشيء وتجوّزه وتسوّغه من الناحيتين المنطقية والأخلاقية. ولكن في مجتمع الكلام يؤتى بالحجج الضمنية للتبرير لإضفاء المقبولية ، واختلاق الأعذار لمشروعية بعض العواطف وهي خمس فيما حدّده تيودول آرمان ريبو بـ "منطق العواطف" ننتقى منها ما يلائم حالنا الموصوف في التقريرين الصحفيين الآنفين: الانفعالية، واللاشعورية، والخيالية وكل العواطف التي يقوم عليها التبرير الذي يشرعن الفوضى الدائمة.