Atwasat

«ليبيا في مهب الربيع العربي»

سالم العوكلي الأحد 04 نوفمبر 2018, 10:05 صباحا
سالم العوكلي

في كتابه «بحث في الفكر الرجعي» ترجمة : محمد علي اليوسفي، يقول إيميل ميشال سيوران، عن قدر الثورة التي تفتك بمبادئها التي قامت من أجلها: «..تصير الثورة محافظة على طريقتها الخاصة، فلا تقاتل من أجل الماضي، بل تقاتل دفاعًا عن الحاضر، ولا شيء يساعدها على ذلك أفضل من اتباع الطرق والأساليب التي مارسها النظام السابق عليها للمحافظة على ديمومته».

إذا كان سيوران يرسم قدرا وحيدا للثورة، فإن الفيتوري في كتابه «ليبيا في مهب الربيع العربي» الذي جمع فيه عدة مقالات واكبت مراحل التغيير في ليبيا منذ فبراير 2011، يجعل للثورة أقداراً عدة، بعضها خارج السيطرة، وبعضها من صنع الوعي الذي قامت في ظله رغبة التغيير، ومثلما في روايته، وجل كتاباته النثرية، الأدبية، كان الفيتوري ومازال مشغولا بالتنقيب في طبقات الوعي التي تشكل عبرها هذا الكيان، وبالبحث عن تعريف لمحطاته التاريخية، وتدافع محتواه البشري الشبيه بحركة الرمال في صحرائه التي تتغير ملامحها يوميا أو ساعة بساعة، كان يلاحق عبر تفسير حكايات التاريخ وتقلبات الجغرافيا هوية هذا الكيان الذي كثيرا ما خذله التاريخ بالنسيان، وخذلته الجغرافيا بالتصحر.

وعبر هذا الكتاب؛ الذي كُتب على جرعات تلاحق الأحداث المتواترة على الأرض الليبية في أهم مرحلة مخاض تمر بها في تاريخها، كان الفيتوري كطفل يلعب لعبة المكعبات، أو بالأحرى لعبة تركيب الصور المجزأة، وهذا ما يجعل سرد الوقائع نفسها يتكرر، مثلما يتكرر وضع جزء من الصورة المجزأة، كل مرة، في مكان لاختبار صحة مدى تطابقها مع السياق ومدى إسهامها في مراودة السؤال، ما بالك حين تخرج اللعبة عن كونها لعبة، وتغدو محاولة لترميم صورة ممزقة إلى قطع صغيرة ـ صورة بحجم كيان اسمه ليبيا ـ من أجل البحث عن ملمح، عن شكل، عن هوية، عن إجابة، عن ذاكرة، عن مستقبل، عن مخرج من المتاهة.

تذكرني قراءتي لهذه المقالات بجلساتنا ساعات طويلة، قبل وبعد فبراير، في مربوعة الفيتوري، وأنا أنصت مستمتعا لتحاليله الحاذقة التي ترصد المفارقات والتناقضات المملوء بها هذا الكيان ومجتمعه، وترصد مكامن قوته ومكامن ضعفه. هذا الكيان الذي قد تكون قوته في نقاط ضعفه كهّبّة فبراير، وضعفه في نقاط قوته كالنظام السابق.
الحالة الليبية متاهة، وفي هذه المتاهة يدور الفيتوري بتحليلاته، وأحيانا بتفكيره بصوت مكتوب، باحثا عن المخرج، راصدا مفاصل مهمة من الماضي الذي شكل الحاضر، ومن الحاضر الذي في رحمه المستقبل:

رصْدُ مكونات الهوية الغائمة والمراوغة، ورصد الشخصية الليبية المنفعلة بطبيعتها، التي حكمتها الأثيرة: نحن أناس لا توسط بيننا.. لنا الصدر دون العالمين أو القبر. وهي حكمة ترجمت، إبان الصدام مع الفاشية الغازية، إلى شعار نضالي: "نحن لا نستسلم .. ننتصر أو نموت" ومن خلال تكوين هذه الشخصية الحادة كان الحوار الليبي الذي أسماه "حوار طرشان" مع أن الحرب الأهلية لا منتصر فيها ولا مهزوم، ومع أن فن التنازلات هو جوهر الحوار والتفاوض إذا كان الهدف وطنا وإنساناً، وليس صدرا أو قبرا.

رصْدُ حالة اليتم التاريخي لهذه اللقيطة ليبيا التي عثرت عليها يوما منظمة الأمم المتحدة في سلة رمال مهملة جنوب المتوسط لتتبناها وترضعها حتى يشتد أزرها. غير أن المربية تعود من جديد بعد ستة عقود لتجد من تبنتها يتيمة مرة أخرى وجائعة بجوار كنزها الذي يتقاتل عليه الورثة، أو بمعنى آخر، تجدها أرملة لا عضد لها بعد تجربة زواج فاشلة خرجت منها بكدمات وندوب وعوز.

رصد تقلبات هذا الكيان محاولا الإجابة عن سؤال: كيف تمزق هذا الكيان والجميع كان يقول منذ بداية التغيير، ليبيا ليست العراق ولا الصومال، وإنها كيان متجانس إلى حد كبير ودولة غنية ومحيطها متجانس سياسيا وزمنيا معها وغير معاد؟.

وعن هذا يحاول أن يجيب الفيتوري متتبعا تلك الشقوق غير المرئية في هذا الكيان التي اتسعت بفعل هذا الزلزال، وتلك التدخلات الدولية والإقليمية التي ما كان في نيتها أبدا سوى تحقيق مصالحها وتوسيع الهوة، وذلك العناد الليبي الهوية الذي جعل تراثها في التعامل مع الآخر صوت الرصاص لا غير مع إنكار لكل عمل سياسي تخلل تاريخها، الذي كتب بين قوسين، (النصر أو الموت) وطيلة هذا الزمن لم تنتصر ولم تمت، لكنها فشلت في العثور على طريق ثالث بين النصر والموت، بين الصدر والقبر، وهو طريق العيش مثل أية دولة تحب الحياة والرفاه والسلام، وتعتبر وجودها ضمن إيقاع العصر نصراً.

في هذا الكتاب ثمة متاهة حقيقية، لكنها المتاهة التي ينشئها عقل رياضي يضع لكل متاهة مخرجاً أو أكثر، فقط من أجل الخروج لابد من شحذ الذاكرة حتى لا نكرر مساراتنا المفضية لطريق مسدود، ومن أجل الخروج لابد من عين تتلفت بحذر وهي مسلطة إلى الأمام، والمستقبل الذي يتدرج في تلك الأضواء الخافتة المتسربة من مخرج ما إلى الهواء الطلق، ومن أجل الخروج لابد من تحكيم العقل والمنطق والحكمة حتى لا يجعلنا الانفعال ندور في المكان نفسه.

الربيع العربي، والربيع الليبي خصوصا، تعبير لا يتنازل عنه الفيتوري مهما حاول الذين يعانون من فوبيا التغيير، أو فوبيا الديمقراطية، تشويهه، لكنه يدرك في الوقت نفسه أن للثورات أقداراً، أحدها سرقتها، وآخر أكل أبنائها، وبالتالي للثورات موجات متتالية كي تنظف نفسها مثلما ينظف السيل نفسه من العوالق وهو يحث خطاه قدما. لكن لكي نحمي الموجة التالية لابد أن نعرف ماذا حدث للأولى، وأن نعرف أننا جميعا مشتركون في الإخفاق، ولا نبحث عن مشجب نعلق عليه خساراتنا.

الأسلوب هو الفيتوري أو الرجل هو أسلوبه. إنه مولع بنحت مفرداته الخاصة، وحتى بنحت جمل وسياقات كاملة لا تخلو أحيانا من استدعاء اللهجة العامية في لحظة غضب أو لحظة عاطفة مفرطة، وهو المقتنع بأن لا حدود لتمارين اللغة واللعب بها دون أن نخرج عن غايتها الأصلية كأداة تواصل، لا تخلو في صميمها من الالتباس مهما أعملنا فيها الدقة، ولا تدفع بعيدا سوء الفهم، القرين لها، مهما تحاشيناه، وربما متعة القراءة تكمن في كل ما يعد من مثالب اللغة أو مساحات الغموض فيها والعجز عن أن تكون الأداة الوحيدة للتواصل، وإلا لما كان من لزوم الحوار أن تتحرك كل أعضاء الجسد لتدعم الكلام بالمعنى، وحيث هنا لا مجال لحضور الجسد، فلابد للخيال و للحدس الذكي أن يكونا عقدا مبرما بين الكاتب والقارئ. تداخل السرد الروائي مع أسلوب المقالة ما يميز هذه الكتابة، ولعل أمتع ما فيها أنها تعتمد الكثير من الحكايات، الشخصية والجمعية، لتستعير منها الدرس أو السؤال أو الإجابة. وما التاريخ؟ وما الجغرافيا؟ وما نحن؟ إلا من سلالة الحكاية.

لم يكن الفيتوري في كل ما كتب يتقصى ويسأل ويجيب ويرى ويحلل فقط، لكنه كان يمارس المهنة الوحيدة التي يعرفها، وهي الكتابة التي بها يتنفس، ولسان عقله يقول: أنا أكتب إذاً أنا موجود، ولسان قلبه يقول: يا وطني قد بلغت فاشهد.