Atwasat

هارون الرشيد والحظ العاثر

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 25 يونيو 2014, 12:01 مساء
محمد عقيلة العمامي

يا لهذا الحظ العاثر، بل يا لهذا العمر المزري، الذي تعجز عن معيشته كيفما تريد، وأينما تريد، وحسبما ما تريد؟ فمن منا لم يولد بتطلع إلى حياة يرى أنها غايته. جنته الدنيوية؟ التي يرى أن سعادته لا تكتمل من دون الوصول إليها، فهذا يحلم بثروة، وثان بمنصب، وثالت بسلطة. ولكن ذوي الحظ العاثر هم أولئك الذين يتطلعون إلى المُثل، وإلى الكمال في السلوك، والرأي، والعقيدة، فيشقون مرتين: مرة عندما يعجزون عن تحقيق غاياتهم والأخرى عندما يعاقبون عليها!! بُليت أنا بحب الكلمة والتطلع إلى الكمال، فلا أنا اقتربت من الكمال، ولا ملكتُ مفاتيح الكلمة. ولا مت، أو سجنت من أجلها، انكسارات مؤلمة، خيبات متتالية، والغاية كأنها سراب، أحيانًا أحس أنني أخدع نفسي، خصوصًا عندما أعرف أن كلماتي الصائبة، لا أستطيع البوح بها، في العهد الملكي كانت هناك مساحة متواضعة، لإبداء الرأي، وعلى الرغم من تواضعها، كانت كافية لتحقيق التناغم الروحي، وبالتالي الراحة النفسية؛ ولكنني حينها لم أكن قد ملكت أدوات الكتابة، ولم أكن قد تسلحت بمعرفة كافية وتجربة حقيقية، وعندما تمكنتً من قشور معرفة، وتجربة.

وبضع أدوات تغنيني عن الحفر بأظافري تسلط علي الحذر، أو قل الخوف، تمكن مني (مراقب) ذاتي يقيدني، يلازمني كأنفاسي يجلس على عنقي، يتكئ على رأسي، يحذرني في فخاخ التهور، ينبهني طوال الوقت أن الرقيب متربص، ليس بمقصه فقط، وإنما بسلطته وقدرته على التأويل وجرك إلى أقرب زنزانة مكبلاً بأوراقك وكلماتك حتى تركع أمام فلقة آلية لا تتعب، ولا ترحم، وقد كانت الرقابة في عصر تسلط القذافي وصلت حدًا مرعبًا، يعرفه كل من كتب في تلك الفترة، بعد أن تمكن نظام القذافي منا بقليل، كتبت عن ليلة افتتاح المسرح الشعبي، قلت ما معناه «كنا نطالب بالمسارح، وعندما أسس أول مسرح في بنغازي، أحصيتُ ليلة أول عرض لمسرحية «شمس النهار»، فكان الحاضرون اثني عشر شخصًا وطفلاً واحدًا!» وبعد صدور المقال، وجدت أن الاثني عشر شخصًا صاروا أحد عشر! ولما سألت المدقق، وكان بالمناسبة صديقي، أخبرني المعنى لم يتغير، وهكذا نكون قد ابتعدنا عن تأويل رقم 12!! فسألته وما المشكلة في رقم 12؟ أجابني أنه عدد أعضاء مجلس قيادة (الثورة)!! وفي مناسبة أخرى وفي نقاش بهيئة مراقبة المطبوعات قلت مازحًا: «لا أظن أن لي معكم مشكلة، فأنا لست كاتبًا سياسيًا، روايتي وقصصي اجتماعية عن سوء الحظ، والحوت والزفرة».

فأجابني أحد المدققين: «ولكنني لم أجد في مجمل أعمالك أنك أطلقت على بلادنا الاسم الذي اخترناه لها: (الجماهيرية). فأنت تكتب ليبيا فقط وكأنك لا تعترف بالاسم الذي اتفق عليه الشعب! قلت في نفسي: ". و" غير ردها في جواها» ، وأجبته منزعجًا: كيف؟ أنا متأكد أنني أكتب الجماهيرية، معقولة لا أكتبها؟ وأحسست وكأنني أتبرأ من اسم بلادنا الحقيقي (ليبيا) حتى لا تتعطل رسالة الموافقة على الطبع! مع العلم أن الطبع على حسابي! ومرة أخرى علق أحد (المدققين) لأنني بالغت في أفراح الناس بعد مسرحية «أصبح الصبح» فقال: «لقد قلت إن شوارع ليبيا كلها فرحانة السرادق في كل مكان مبتهجة بخروج المساجين». قال: «وكأنك تريد أن تبرز أن المساجين كانوا كثيرين من دون أن تحدد أن الإفراج عنهم تم بعد العفو عن أخطائهم، لا أدري شعرت وكأنك تثير في القارئ تساؤلاً عمن سجنهم!» لم تكن مهمتهم النص في ذاته، ولكن تأويله. ثم قامت ثورة 17 فبراير المباركة جدًا، وصار الرقيب الذاتي ينبهني ويتحسس رأسي، كل صباح بل صرت أتلفت يمينًا ويسارًا بامتداد خط سيري، لم يعد هناك تنبيه من أحد: لا مدقق، ولا مصحح وإنما من رصاصة، أو حقيبة ملغمة، يعدها من لا يعجبه ما كتبت سواء أكان ما قلته حقًا؟ أو نقدًا؟ أو حتى مزحة أوّلت بما لا يقبله صاحب الحقيبة؟! أليس هذا حظًا مزريًا؟ والمصيبة أنه لم يعد في العمر بقية تهاجر بها، وتهذي كما تريد بعيدًا عن الجولاطينا! فمن يتصدق على ببضع سنوات حتى نرى كيف ستنتهي مأساة هارون الرشيد؟