Atwasat

الطريق إلى باليرمو: إمكانيات نجاحه

أحمد معيوف الإثنين 29 أكتوبر 2018, 03:10 مساء
أحمد معيوف

تقوم إيطاليا بتحشيد الجهود الدولية من أجل تأييد مبادرتها التي تعمل عليها بخصوص الملف الليبي، والذي أعلنت عنه وأشارت إلى أنه سيعقد في باليرمو القريبة جدًا من السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وقد أعلن وزير الخارجية الإيطالي، إنزو موافيرو ميلانيزي، رسميًا عن هذه المبادرة في إحاطة قدمها الإثنين الأول من أكتوبر إلى مجلس الشيوخ في روما، وأشار في الإحاطة إلى أن بلاده ستستضيف مؤتمرًا دوليًا يسعى لجمع القوى السياسية المتناحرة، لبحث محاولة وضع حلول للأزمة الليبية، وإن حكومته تتوقع مشاركة أطراف رئيسة من داخل وخارج ليبيا.

ولا شك أن اختيار المكان في مثل هذه المناسبات له دلالته، فكان أول الأسئلة التي تطرح نفسها في هذه المناسبات هو دلالات التاريخ ودلالات المكان. الحقيقة لم أجد للتاريخ دلالة معينة، لكن أسعفتني مقالة للسيد عبدالرحمن شلقم في العدد الأخير لجريدة الشرق الأوسط تحت عنوان «ليبيا بين العقل الفرنسي والقلب الإيطالي» يقول فيها إن «اختيار مدينة باليرمو عاصمة إقليم صقلية الجنوبية لعقد المؤتمر حول ليبيا، له مدلول خاص. هي من المدن التي كانت حلقة الرباط العربي في عهد الأغالبة، وقدمت الكثير للثقافة العربية، وبها من الشواهد الأثرية العربية الكثير».

وهذا أمر قد يؤخذ بالاعتبار في اختيار المكان الذي يوحي بالتقارب التاريخي والثقافي بين شعوب ضفتي المتوسط. إلا أني أجد سببًا آخر قد يضاف لما تفضل به السيد عبدالرحمن شلقم، فمدينة باليرمو هذه السنة استضافت حدثًا ثقافيًا مهمًا على مستوى البلدان الأوربية، حيث يصادف هذه السنة الدورة الثانية عشرة لمنفستا الاتحاد الأوربي الذي يعقد بين شهر يونيو ونوفمبر. هذا الحدث هو «بنالي» الاتحاد، يعقد مرة كل عامين في إحدى المدن الأوروبية، وموضوع البنالي لهذا العام هو «حديقة الكوكب» التي يسعى الفنانون من خلالها إلى زراعة ثقافة التعايش بين الشعوب. لهذا ربما يكون اختيار باليرمو بسبب هذا الحدث وما يعنيه عند الأوروبيين حتى يكسب زخم الحضور، وأيضًا لما يحمله من رسالة إنسانية حول مفهوم التعايش بين شعوب العالم الذي عبر عنه عنوان المهرجان.

اختيار المكان في مثل هذه المناسبات له دلالته، فكان أول الأسئلة التي تطرح نفسها في هذه المناسبات هو دلالات التاريخ ودلالات المكان

لكن، ما الذي يمكن أن تضيفه إيطاليا لمبادرة فرنسا التي تعثرت، دون أن تحقق أيًا من مخرجاتها على الأرض حتى الآن، رغم أن المبادرة كانت جديرة وقادرة لحد بعيد على تحريك الماء الراكد في بحيرة السياسة الليبية، بوضعها جدولًا زمنيًا للبنود التي تبنتها.
للأسف، يأتي في أول أسافين تابوت المبادرة الفرنسية تقاعس البرلمان وربيبه مجلس الدولة عن دوريهما في توحيد مؤسسات الدولة، والتي تعتبر أحد أهم بنود المبادرة. ذلك أن كل الحراك السياسي سيعتمد دورانه على مؤسسات موحدة، وأهم هذه المؤسسات الحكومة أو الجسم التنفيذي والجيش أو القوات النظامية. فالانتخابات المزمع عقدها تحتاج إلى حكومة تشرف عليها وجيش يحمي صناديقها، وبانقسام الحكومة والجيش لا يُمَكِن لهذه الانتخابات أن تجرى.

الأمر الثاني القاعدة الدستورية، فالمبادرة الفرنسية لم تشر إلى قاعدة دستورية معينة يمكن الاعتماد عليها، وتركت هذا الأمر للفرقاء الليبيين وسمحت لهم بقراءتها كلٌ حسب توجهه. لذلك رأت قيادة الجيش ومن يؤيدها في الإعلان الدستوري المؤقت ووثيقة فبراير وقرار البرلمان رقم 5 لعام 2014 قواعد كافية لإجراء الانتخابات، بينما يرى الفريق الخصم أن مشروع الدستور بعد الاستفتاء عليه يجب أن يكون القاعدة الدستورية التي تبنى على ضوئها الانتخابات التشريعية والرئاسية.

مجلس الدولة بإمكانه أن يساهم في حل المشكل، كما بإمكانه أيضًا عرقلة مسار التسوية للأزمة، هذه حقيقة. لكن، حل الأزمة يظل في يد الجسم التشريعي، وهو البرلمان برئاسة السيد عقيلة صالح. فمثلًا قام مجلس الدولة بإقرار مشروع قانون الاستفتاء على مسودة الدستور في شهر ديسمبر من العام 2017، وفقًا للبند الأول من المادة (23) من الاتفاق السياسي، إلا أن مجلس النواب لم يقر هذا القانون بعد، رغم مرور ما يقرب من السنة عن تسلمه النسخة المعتمدة من مشروع الدستور، ورغم إقراره أخيرًا، إلا أنه لم يخرج ولم يرَ النور حتى الآن.

إن الظلال التي ألقت بثقلها على المبادرة الفرنسية وعملت عل وأدها ما زالت قائمة حتى الآن، فما زال ملف توحيد الجيش يقف أمام الكثير من العوائق لعل أهمها تبعيته، فالمعلوم أن المؤسسة العسكرية يجب أن تتبع الجهاز التنفيذي، وقضية توحيد المؤسسة العسكرية مرتبطة بحالة الانقسام، ويظل توحيد هذه المؤسسة مرهونًا بالتقدم الممكن في إنهاء الانقسام السياسي الراهن. وقد رأينا ثقل هذا الملف وقتامة ظلاله في اعتماد البرلمان اتفاق الصخيرات وتضمينه في الإعلان الدستوري، ذلك أن هذا الملف توقف عند عتبة المادة الثامنة من الاتفاق، فقد أصر البرلمان على ألا تنقل تبعية المؤسسة العسكرية إلى المجلس الرئاسي ولا يزال يتمسك بهذا الأمر، مما عطل حتى الآن إيجاد مخرج لهذا الأمر.

أول أسافين تابوت المبادرة الفرنسية تقاعس البرلمان وربيبه مجلس الدولة عن دوريهما في توحيد مؤسسات الدولة

وهناك أمر آخر سيلقي بظلاله أيضًا على الأزمة الليبية قبل انعقاد مؤتمر باليرمو، ذلك أن التوجه الأممي، من خلال البعثة المساندة، برئاسة السيد سلامة، كانت تسعى إلى تقليص المجلس الرئاسي، والذي رأت عليه شبه إجماع من الفرقاء السياسيين، خاصة وأن الانقسام في المجلس المتعدد الرؤوس فشل في إدارة الأزمة في ليبيا. ورغم أني لا أتفق مع ما ذهب إليه السيد عقيلة صالح، في تبرير عدم منحه الثقة لحكومة السراج، باعتبارها ضعيفة ولا يمكنها قيادة ليبيا، وتناسى وجود حكومة منافسة لها في البيضاء لم تقدم شيئًا للمواطن الليبي رغم تمتعها بالدعم من قبل الجيش والبرلمان. المهم، التناغم الأخير بين مجلسي الدولة والبرلمان، في قضية إعادة تكوين مجلس رئاسي برئيس ونائبين، ربما يتعارض مع توجه المجتمع الدولي الذي لا يزال يرى في السراج رئيسًا للمجلس الرئاسي، ويقبل تقليص عدد أعضاء المجلس وليس استبداله.

الانسداد المتراكم بفعل ممارسات الساسة، وتناقض الفرقاء وفشلهم في منع الأزمة من التفاقم بات معها الحل المحلي مستحيلًا رابعًا يضاف إلى مستحيلات صفي الدين الحلي الثلاثة، وبالتالي حكم الليبيين بمحض إرادتهم على أن تتناول فرنسا ومن بعدها إيطاليا هذا الملف. وهذا أمر قد يكون مرحبًا به، لأنه في اعتقاد الكثيرين شر أهون من شر أن يظل الملف بحيرة آسنة، تزكم رائحتها المواطن البسيط الذي يعاني من ظروف الحياة التي تزداد تأزمًا يومًا بعد يوم. وفي تقديري، إذا استشعر السياسيون أهمية مساهمتهم في حل الأزمة، بإمكانهم ألا ينتظروا من هذه الدول أن تقدم مقترحات الحل في مؤتمر باليرمو، بل عليهم أن يساهموا بتقديم مقترحاتهم مهما تناقضت، ليكون الحل من خلال إيجاد قواسم مشتركة في هذه المقترحات ضمن تناقضاتها.

إذا لم يتسارع الليبيون بتقديم مقترحات قابلة للقبول، قادرة على تجاوز الخلاف، ممكنة التحقق على الأرض في زمن معقول، فسيضطرون إلى قبول ما يملى عليهم من الخارج، ولن تكون محطة باليرمو إلا محطة أخرى من المحطات التي رسا فيها قارب الخلاف الليبي. بيد الليبيين أن يمهدوا طريق باليرمو بمقترحات وطنية إن أرادوا الخروج بالبلاد من أزمتها. فالمقترحات التي تأتي من الخارج ستكون ملبية لمصالح تلك الدول أولًا وأخيرًا، وستكون مصلحة ليبيا آخر ما ينظر إليه.