Atwasat

حـزب الهدف المؤقت

نورالدين خليفة النمر الأحد 28 أكتوبر 2018, 11:41 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يتهم الليبيون وهم ينعون اليوم انسداد حاضرهم بأحزاب مصطنعة لا أهداف لها، الحقبة الملكية 1951 ـ 1969 بأنها جمّدت حياة السياسة في ليبيا، ويستندون على ثلاثة مستمسكات واهنة. أبرزها نداء مؤرخ بـ 10 فبراير 1948 من الأمير الذي سيصير الملك إدريس السنوسي بعد الاستقلال في24 ديسمبر 1951 متكلماً بضمير البرقاويين دامجهم في السنوسية ينصح من وصفهم بأخواننا الطرابلسيين باسم الوطن المقدّس حلّ جميع الهيآت والأحزاب على اختلاف أنواعها، وتشكيل هيئة واحدة بأسرع ما يمكن لتواجه الأحداث المنتظرة إن كان هذا "يروق لكم".

هذا النداء سبقه في برقة رسالة وجهها السيد إدريس السنوسي بتاريخ 1 فبراير 1948 من مدينة بنغازي لرئيس التكوين شبه الحزبي الذي تقمص إسم جمعية عمر المختار معبراً عن امتنانه بالامتثال لأوامره باستبعاد الجانب السياسي من نشاط الجمعية، والاكتفاء بالنشاطين الرياضي والثقافي مبرّراً تصرّفه كما في رسالة طرابلس بتوحيد الكلمة وبذل الجهود مجتمعة لإسعاد الوطن في ظروفه الحاضرة" والظرف المُشار إليه في الرسالتين هو: المطالبة بالاستقلال. وفي يوم 1 أكتوبر 1948 يؤسس السيد إدريس المؤتمر الوطني البرقاوي كهيئة شعبية تتحدث باسم برقة بإيعاز منه، فتكون الداعم له أمام ماتبقى من منافسيه في برقة، وغالب زعامات طرابلس غير القابلة به ملكا.ً

نداء إدريس للزعماء الطرابلسيين، يعكس حقيقة كانت ماثلة في الواقع الليبي حيث رفد السيّد إدريس برقة بزعامة متزنة، بينما كانت طرابلس قد عانت من فقدان الزعامة المنظمة، ومن الخلافات الحزبية فيما يشبه الفوضى. فالولاء الشعبي تقاسمته الإقطاعية والعائلية، والشعور الوطني جذوره لم ترسخ في البلاد بعد. حتى يتغلّب على الولاءات التقليدية، وهو ماترّتب عنه ظهور جماعات سياسية متعددة، لم يتمكن قادتها من تنسيق نشاطهم لتنافسهم على الزعامة فيما بينهم.

زعماء طرابلس انتهزوا استعادة النفوذ السنوسي في برقة، فرصة للاهتمام بالسياسة، فلجأ بعضهم إلى زعامة السيد إدريس على طرابلس، بدون منافس كما حدث في برقة، ليس لميولهم السنوسية ولكن لإحساسهم بقدرته على توحيد الإقليمين في كيان ليبي واحد أمام القوى الدولية المتآربة على ليبيا. المعارضون المتطرفون رفضوا إمارته والمعتدلون ترددوا في قبول زعامته، بل طالب البعض بوضع البلاد تحت الحماية البريطانية، ولكنهم أجمعوا على استحالة عودة بلادهم إلى السيطرة الإيطالية بعد التحرر مباشرة من إيطاليا. عقد أعيان طرابلس 25 يناير1943 اجتماعاً للبحث في وضع البلاد بعد الحرب، ولاستئذان السلطات الانتدابية البريطانية في تنظيم الأحزاب السياسية. الحاكم العسكري البريطاني رّد على طلبهم بالرفض محاججهم بأن الحرب لم تضع بعد أوزارها، وأن الوقت الملائم لمطلبهم عندما يتقرر مستقبل البلاد بمقتضى معاهدة صلح بين الدول المنتدبة على ليبيا وإيطاليا المستعمرة السابقة. ولكن الأعيان الطرابلسية توالوا في المطالبة منوهين بالوعد البريطاني لمنح طرابلس الحرية إسوة ببرقة التي أحوالها الداخلية ليست أكثر ملاءمة منها. حيث أتيح لمواطنيها أن ينشئوا نادياً سياسياً ويقصدون جمعية عمر المختار، التي قام على التصرّف بتجميد نشاطها السياسي المؤتمر الوطني البرقاوي.

أوّلية المطلب الاستقلالي أماتت أحزاب الاستقلال الليبية بعد ثلاث سنوات من بزوغها.
فالأحزاب التي أنشأها مطلب الاستقلال، صارت نافلة بتحققه، وثانية وحدة الولايات الثلاث مطلب الأحزاب الطرابلسية وجمعية عمر المختار أرضاها النظام الفيدرالي، الذي كان تنظيماً مؤقتا إلى حين بزوغ الثروة النفطية التي ريعها سيصيغ ليبيا الواحدة. المحدودية الزمنية بين المطالبة بالاستقلال وتحققه أسقطت في يد الأحزاب أن تتجدّد في صياغات موضوعية وبمبادئ جديدة تجتذب الجمهور السياسي الذي وعته الفترة الليبرالية للانتداب البريطاني، وأن الوقت والتأهيل لم يكونا كافيين لتلبية تطلعات الشباب إلى أفكار جديدة ووضعها في برنامج حزبي، علاوة على أن الدلائل كانت تؤكد عدم ارتياح السلطة الحاكمة ممثلة في الملك والقبيلة الموالية له ورئاسة جكومته إلى عودة النظام الحزبي للظهور، وهو مادفع الجماعات المسيّسة إلى الميل للعمل السري، والانخراط في أحزاب القومجيات والعروبيات الواهمة، وهو ما سيصير مع الزمن علامة الشؤم الليبية.

ولكن إذا تعدينا المؤقتية المطلبية لأحزاب الاستقلال الليبي، فإننا سنتردد كثيراً بوصفها أحزاباَ سياسية بالمعنى الحديث للكلمة. فقد أخذت شكل جماعات تدور في فلك الزعماء القبليين البارزين، وكان التابعون يدينون لشيوخ القبائل من يتكلمون باسم قبائلهم، التي كانت في برقة تحت تأثير السنوسيين، والتي لطبيعتها القبلية والريفية فإنها تدعم مبادئ الحكم الأبوي المهيمن. أما أتباع الإقطاعيين الممثلين بالأعيان فإن أغلبهم من أبناء الأُسر العريقة وأثرياء المدن من نسل القولوغلية في بنغازي ودرنة وطرابلس.

كما حدث في البلدن العربية التي احتلتها بريطانيا أو انتدبت علي تسيير شئونها حتى البت في مصيرها مابعد الحرب العالمية. كانت التجربة السياسية الحزبية المصرية مستلهم نخبها الاستقلالية، وكان الحزب الوطني الذي تأسس، وتبلور كحزب واقع مطلبه الأساسي الاستقلال، حتى يُبرز شعبويته إزاء نخبوية حزب الأمة الذي مثّل الأعيان والصفوة. فقد كان الحزب الوطني بورجوازي الطابع يتغذى من التقليد الأوروبي البورجوازي، الأمر الذي خلق تجاوباً فاتراً مع خطابه لدى الجماهير الفقيرة والبورجوازية الصغيرة. لذلك اختفى الحزب عام 1919، بعد انتفاضة الأمة، تاركاَ الساحة لحزب الوفد، الذي سيملأ الأمزجة السياسية المصرية بشعبويته التي استلهمها منه انقلاب تنظيم الضباط الأحرار عام 1952 الذين كانوا أبناء البرجوازية الصغيرة حيث في الطبيعة المصرية تمتزج السياسة بالعواطف، وهذا ماسردته لنا كتب المطالعة المدرسية المصرية في رواية حادثة دنشواي 1906،1907.

فرومنطقيتها تفاعلت مع قدر ضربة شمس أماتت ضابطا إنجليزيا، فعوقب فلاحون على ذنب لم يقترفوه بالموت، والتي ألهمت ليس فقط أشعاراً لحافظ وشوقي، بل تأسيس الحزب الوطني ذاته الذي كان استنساخُ رومنطيقيته الليبية متجلياً ليس في الأحزاب العائلية الطرابلسية كالحزب الوطني ومنشقه حزب الكتلة الوطنية، بل المفارقة أنه تسلل إلى برقة عبر جمعية عمر المُختار التي ننتقى مثالاً دالاً عليها صحيفة الوطن الناطقة باسم الجمعية، التي تماهت مع الخطاب الحزبوي المناويء للإنجليز المحتلين لمصر، والمحررين لليبيا، فالإفتتاحيات لم تخفِ كُره الجمعية للوجود البريطاني، وكانت حادة في نقدها وهجومها على حكومة الولاية وفيها غمزٌ واضح لتواطؤ الملك إدريس مع الوجود البريطاني.

كما أن الجمعية ما أنفكت تؤكد على ميولها العروبية ممتدحة أمين الجامعة العربية المصري الذي أوغل في إرباك الحركة الوطنية الليبية منذ قدومه إلى برقة نوفمبر 1915 محملاً برسائل من أقطاب الحزب الوطنيّ المصري إلى التركي نوري باشا. فاقترب من أحمد الشريف السنوسي ليحارب معه القوَّات البريطانيّة عند الحدود المصريّة اللّـيبيّة. تحالف الأمير إدريس مع بريطانيا بعد خسران معركة "العقاقير" لم يكن محلَ نقاش، وخوافه من طموحات عزام ومآربه في ليبيا التي لازالت معالمها المريبة مخفية حتى اليوم هما مادفعا الأمير إدريس لتصرفه الذي أبانته رسالته في 1 فبراير1948بتجميد العمل السياسي لجمعية عمر المختار الذي كان توطئة لإماتة الحياة الحزبية مدماك الديمقراطية المغيبة في ليبيا التي تفشل غالباً حتى اليوم أن تصير نفسها.