Atwasat

ذاكرة مكان.. أمي مريم!

صالح الحاراتي الخميس 25 أكتوبر 2018, 11:12 صباحا
صالح الحاراتي

مدينتي التي ولدت وعشت طفولتي بها كان يسكنها خليط من الأجناس والأعراق والديانات، حيث كان بها يوما ما جالية إنجليزية معظمهم من العساكر ولهم مساكنهم الخاصة خلف معسكر إنجليزى "قبل الجلاء" يسمى "الحامية"، أتذكر أننا كنا نراهم في مباريات كرة القدم التي ينظمونها باللعب ضد فريق النادي المحلي وهم من أهدى لفريقنا المحلي اللباس الرياضي الذي يرتدونه كما سمعنا من كبار الحومة، وكانت صيحات التشجيع تأتي من جمهور الحاضرين من الطرفين فى مناخ يسوده الاحترام والظرف والحماس أيضا، كنت طفلا وأنا أراهم قبل بداية الصيف وهم ينظفون الشاطىء من "تبن البحر" وهو أعشاب بحرية يقذفها على الشاطىء، كان ذلك استعدادا لموسم الاصطياف، وكانوا ينصبون سارية توضح حالة البحر ومنصة صغيرة قرب الشاطىء للإنقاذ!

كان هناك جالية إيطالية، لهم كنيسة يؤدون فيها شعائرهم وكان لهم مزرعة نموذجية في أطراف المدينة، وتتميز خاصة بزراعة التبغ.
أذكر أيضا أحد أفراد الجالية هو من يملك دار العرض السينمائى المجهزة بشكل جيد فى المدينة مقارنة بدار عرض أخرى صيفية؛ وتجترح الذاكرة من الإيطاليين شخصا مميزا ومحبوبا؛ وهو "جياكالونى" الفني الكهربائي الوحيد المسؤول عن إصلاح أي عطل في أي خطوط عامة في المدينة ومسؤول أيضا عن متابعة وصيانة محطة الكهرباء الوحيدة. الإيطاليون كانوا أقرب للناس في علاقتهم الاجتماعية؛ وكان لهم ثلاث حانات ومحل لبيع الخمور، وليس بعيد عن بيتنا كانت تسكن عائلة إيطالية لها صبية تدعى "سيلفانا"، كانت آية في الجمال لدرجة أن هناك من ألف حولها الأغاني والشعر؛ إضافة إلى كل أولئك كان بمدينتى نفر قليل من اليهود والمالطيين، والجميع كانوا متعايشين ولا أرى في طفولتي أي أثر لكراهية أو تعصب.

فكانت نشأتي في ذلك المناخ بعيدة عن التعصب؛ خاصة وأنني التحقت بالكشافة في طفولتي، وكان للمبادىء الكشفية التي تحض على التعاون والمحبة والتسامح تأثير كبير أيضا في برمجتى العقلية.. كنت ألحظ أن سكان مدينتى لا يعرفون انحيازا للقبلية أو العصبية للون أو الجنس أو العرق حتى أن المناصب الحساسة مثل (المحافظ ومدير التعليم ورئيس مركز الشرطة) وغيرها من الإدارات قد يشغلها أي إنسان من خارج المدينة ولا يتحرج الناس من ذلك أو يشعرون بشيء من عدم الرضا.. كانت الحياة سلسة والعلاقات يسودها الوئام والود.. هذه ليست نوستالجيا وحنينا لماض انقضى، ولكني أحاول توصيف واقع عشته وعايشته عن قرب.

والحقيقة أن معظم سكان مدينتي مزاجهم العام مدينى الهوى، يتقبلون الوافد إليهم والتعايش معه بلا ضغائن ولا تمييز.
فى هذا المناخ تأتي ذاكرة المكان باستحضار بيت "أمى مريم"، وهو بيت صغير جدا؛ يقع داخل "جاراج" عمومي مخصص لمبيت سيارات الإدارات الحكومية ويعرفه عامة الناس "بجراج المواصلات" ومكانه فى الطرف الشمالي من المدينة وقريب من البحر.

البيت صغير. ولكنى أراه كبيرا جدا بقاطنيه.. أمي مريم هذه، سمراء زنجية الملامح فارعة الطول ابتسامتها حاضرة دائما؛ تكاد ترى ما يسمونه الطيبة والود متجسدا في نظرة عينيها.. وعندما أتذكر احتضانها لي وأنا طفل صغير أتذكر بوضوح معنى المودة والإنسانية الخالصة.

أمى مريم صديقة حميمة لوالدتي.. كانت مشاعري وأنا طفل تجاهها تحمل كل الحب والود والاحترام، وأكاد لا أفرق بين أمي مريم ووالدتي. زوجها إنسان عفيف اللسان طيب القلب والمعشر قليل الكلام. كان حارسا في "جراج" مبيت سيارات الدولة، لها ابن اسمه محمد، والدتي لم تكن تعطينا إحساسا غير أنه أخ لنا، لم أشعر يوما بشعور عنصري في حياتي بفضل علاقة الرائعتين أمي ووالدتي والمزاج العام في البيئة الحاضنة. وأنا أتذكر ذلك أحدث نفسي قائلا، ربما كان ذلك سببا في نشأتي محصنا ضد العنصرية حيث لم أشعر يوما بشعور عنصرى في حياتي والحمد لله.

ألف نور ورحمه على روحهما.