Atwasat

هل تكتئب الشعوب.. وهل الليبيون استثناء؟

إبراهيم قدورة الأربعاء 24 أكتوبر 2018, 10:24 مساء
إبراهيم قدورة

قبل الإجابة على هذين السؤالين أُحب التنويه إلى أنني لست طبيبًا نفسيًّا ولا أدعي دراية ومعرفة بذلك العلم، ولكنني مهتم بالتحاليل العلمية، ونظرًا لأهمية الحالة المكلومة التي يعيشها السواد الأعظم من الشعب الليبي، رأيت أن أتطرق لهذا الموضوع بصفة العموم من باب إثارة التفكير والتنبيه إلى الذات الليبية الجماعية، علنا نوفق معًا لفهم الحالة الليبية واكتشاف شيء من خفاياها.

تناول قدماء الرومان والإغريق والصينيين والمصريين الاكتئاب على أنه أرواح شريرة تتقمص الإنسان، تعالَج بالضرب المبرح والتجويع حتى تخرج هذه الأرواح من جسد المكتئب، وفي القرن الرابع قبل الميلاد، قال الطبيب اليوناني أبقراط إن الاكتئاب حالة مرضية، تنتج من عدم توازن كيمياء السوائل في جسم الإنسان.

في القرن السادس عشر، شرح العالم البريطاني روبرت بورتن «Robert Burton» سنة 1621م أسباب الاكتئاب وحددها في الفقر والخوف والعزلة، وحدد طرقاً مختلفة للعلاج كالرياضة والترحال ومراقبة الأكل... إلخ.

وعُرّف الاكتئاب في العصر الحديث بأنه مرض نفسي إنساني، له تأثير سلبي على الإنسان وطريقة تفكيره وتصرفاته، فينتابه شعور بالاضطراب النفسي، والحزن، وفقد الاهتمام المفاجئ بالأشياء المهمة.
للكآبة أسباب بيوكيميائية «عدم توازن في سوائل المخ»، أو جينية «وراثية في العائلة»، أو شخصية «التشاؤم وعدم الثقة في النفس»، أو بيئية «التعرض المستمر للعنف، والشعور بعدم الأهمية، وسوء المعاملة، والفقر، والمعاناة اليومية». وما يهمنا في هذه المقالة هي الأسباب المكتسبة من البيئة، مع التسليم بأن الحالات الفردية هي جزء من الاكتئاب العام.

الاكتئاب على مستوى الجموع أو الاكتئاب الشعبي، إذا صح هذا التعبير، يأتي من ظروف مشتركة تعيشها الشعوب تؤدي الى اكتئاب أفرادها، على سبيل المثال، في الفترة 1695-1697م، ضرب الجوع فنلندا التي كانت جزءًا من إمبراطورية السويد، مات كثير من الفنلنديين، وانتشرت الجريمة، وتفشت الأمراض، حتى أُطلق على تلك السنوات «سنوات الموت». ظهرالاكتئاب العام وتُرجم بوضوح في الوثائق الفنلندية في تلك الحقبة التي تحدثت عن مشاعر من الضعف والإحباط واليأس والحزن، وصفت هذه الوثائق شروخًا اجتماعية كبيرة، حيث تقاتل الجيران وأعضاء الأسرة الواحدة، وانتشرت الجريمة بأشكالها البشعة. بعبارات أخرى، الجوع والموت والكوارث تدفع الجموع إلى الاكتئاب.

أيضًا محصلة الاكتئاب الفردي في التجمعات البشرية تصبغ اكتئابًا على ذات المجموعة، ففي هذا الصدد نشرت مؤسسة غالوب «GALLUP» الأميركية، التي تقوم بدراسات تساعد المنظمات والقادة على حل المشاكل المستعصية، نشرت عدة دراسات منها دراسة تؤكد أن نسبة المكتئبين بين الفقراء 15.1% أكثر من الذين لا يعانون الفقر في أميركا، وفي دراسة أخرى أجرتها نفس المؤسسة بينت أن نسبة الاكتئاب بين العاطلين عن العمل تصل إلى 18%، كما بينت في دراسة ثالثة أجرتها العام 2009م أن 17% من الشعب الأميركي «40 مليون أيمركي» أُصيبوا بالاكتئاب لأسباب اجتماعية، كما نشرت جريدة «الإندبندت» البريطانية في عددها الصادر في 13 سبتمبر 2017م مقالة تقول إن البريطانيين هم أكثر الشعوب كآبة في أوروبا، حيث شكّل الاكتئاب 10% من الشعب البريطاني.

ما تريد هذه الدراسات قوله إن الفقر والبطالة والمشاكل الاجتماعية وراء اكتئاب جماعي بنسب مختلفة، مع وجود ارتباط وثيق بين الكآبة الفردية وكآبة المجموعة التي تعيش نفس الظروف الاجتماعية والسياسية.

ولابد هنا أن نتوقف عند مؤثر قوي يساهم في تضخم الاكتئاب الجماعي أو تقليصه، نظام الحكم والوضع السياسي وما يقع على الناس من قهر وكبت للحريات العامة والخاصة، وضنك الوضع الاقتصادي وتدهوره، وغياب الأمن والشعور بالغبن والظلم.

كل هذا يضفي الكآبة على الشعوب ويجعلها تزهد حتى في الإدلاء بصوتها في صناديق الاقتراع، وما انخفاض نسب المشاركين في الانتخابات إلا نتيجة سلوك انعزالي وشعور بعدم الأهمية لقضية كانت في ماضٍ قريب مهمة للغاية.

تعرض الشعب الليبي إلى عقاب جماعي حينما أقام الاستعمار الإيطالي الفاشستي في الثلاثينات من القرن الماضي معسكرات اعتقال جماعية لسكان برقة، ويقدر المهجَّرون قسرًا بأكثر من 100 ألف ليبي برقاوي، قضى أكثر من 55% منهم في الصحراء، حيث انتشرت بينهم الأوبئة وقتلهم الجوع. ناهيك عن المكابدة التي عاناها الليبيون على يد الفاشست حينما قاموا بإعدام المجاهدين شنقًا على مرأى من أطفالهم وعائلاتهم وقبائلهم في كل أنحاء ليبيا.

تكررت مأساة الليبيين ومعاناتهم لقرابة أربعة عقود تعرض فيها الشعب إلى تجهيل مبرمج، تحت سلطة عسكرية ظالمة، قُمعت الحريات وجرِّمت الحزبية وسُلبت إرادة الشعب وغابت التنمية وساد الجهل، وعُلق أبناء الوطن وطلبة الجامعات على المشانق في الميادين العامة والحرم الجامعي خلال شهر رمضان، ضربًا بالمشاعر الدينية عرض الحائط، ناهيك عن هدم البيوت واغتيال وخطف المعارضين خارج البلاد وداخلها.

كل هذه الظروف القاسية التي مر بها الشعب الليبي، كفيلة بأن ترسم مسحة الحزن والغضب والشعور بالقلق على مستقبل الأجيال الصاعدة، وغياب الطموح ويأسًا من الإصلاح السياسي، وعدم الاكتراث، وانعدام الجدوى من العمل الجماعي، كل هذه أعراض لكآبة عامه حلت بنا في ليبيا.

تقول «ياسمين رضوان»* طالبة التاريخ في فنلندا، في معرض إجابتها على هذا السؤال، حيث لخصت إجابتها بالقول: «بالمنظار السياسي والتاريخي والاجتماعي، نعم الشعوب تكتئب كنتيجة لوعي وعلم هذه الجموع الشعبية لقضاياها السلبية وخاصة السياسية، التي تحمّلها أثقالاً من الأحزان وتقتل فيها الطموح».

الحقائق العلمية تقول إن الاكتئاب يُعالج على كل المستويات، والاكتئاب المكتسب من الظروف القاسية والكوارث لا يورَّث للأجيال القادمة، ويزول بزوال المسبب، وما النهضة الأوروبية بعد الحروب والدمارالذي عم أوروبا، وما بزوغ دولة الاستقلال بعد قهر الفاشست في ليبيا إلا دليل على أن الشعوب تتعافى، لذلك أقول إن الشعب الليبي سيخرج من هذه الأزمة التي يعيشها منتصرًا على من تعمَّد أن يرسم الكآبة على محياه، وستعود الابتسامة على الوجوه الطيبة، وتنجلي مسحة الحزن.
----------------------------
*ياسمين رضوان طالبة ليبية تدرس التاريخ في فنلندا، كان لي معها حوار حول مشاعر الشعوب الجماعية تجاه الأحداث والكوارث التاريخية وهل الشعوب تصاب بالكآبة نتيجة لذلك؟ أحييها وكلي فخر بأنها ابنة شقيقتي.