Atwasat

البداهات المُنسدّة

نورالدين خليفة النمر الأحد 21 أكتوبر 2018, 01:22 مساء
نورالدين خليفة النمر

قادت الثورة الليبية لعوزها النخبة نفسها مبكراً بِالبَدَاهَة spontaneously إلى البداهة intuitively المنسّدة تلك التي لايُسنبط منها بديهية Axiom، وكما اليوم تتحارب الميليشيات ضد المليشيات. في الفوضى الليبية أيضاً تتضارب البداهات بالبداهات بغير إعمال فكر فتغرق ليبيا كُلّها، ولاتتشبّث بقشة تستنبطها بديهية من نسق تفكير موضوعي. فتتجلّى البداهة روحا عفوية تلائم مزاج الليبي وسُرعة خاطِره بإصابة القول ارتجالاً، في ضربٍ من التهوّر يتجلى في قضية جوهرية تمس وجود الإنسان الليبي ومصير مجتمعيته بعد طفرة التغيير عام 2011 باختراع مصطنعة تعطيل الدولة المدنية الديمقراطية ونعني بذلك: الدستور الذي استغرق هيئة تأسيسه وكتابته أربع سنوات من العمل فتبدو قضية إقرار مسوّدته من قبل البرلمان في طبرق المعطل نفسه عن العمل مهمة دونها خرط القتاد.

أدّى منهج الاستنباط أو الاستدلال دوراً علمياً في الضبط المنهجي لتنظيم العملية العقلية والمنطقية. فتوصلت بواسطة مبادئ وقوانين علمية للحقيقة وتفسيرها والتنبؤ بها والتحكم فيها في مجال العلوم الطبيعية والرياضية. إلا أن الاستنباط ما زال منهجاً صالحا نسبيا في مجال تفسير وتطبيق المبادئ والنظريات والأحكام القانونية العامة والمجردة. وهو مايدفع رجال القانون الذين تُسند لهم بحكم اختضاصهم المشاركة الفاعلة في مهمة كتابة الدستور. التعامل مع البداهات المرتجلة من بُداة الرأي في المؤسسات التي ليست لها أية مشروعية دستورية. بل هي بحكم تكوينها مضادة لها. بأن يتجاوزوا بداهتهم القضائية Judicial knowledge ويمنحوا كما ورد في رّد عضؤٌ من الهيئة التأسيسة لصياغة مشروع الدستور الليبي على الناطق بمسمى القيادة العامة لمسمى الجيش الليبي بوصف مدّعياته تعديلاً تم إجراؤه على الدستور، دون اعتبار لأية سلطات أخرى مشاركة في الحكم. بينما الاعتقاد السائد في فقه القانون الدستوري يوصي بإسناد مهمة تعديل في الدستور للسلطة التي أناط بها الدستور هذه المهمة وبالطريقة التي يحددها بشرط أن تراعي إجراءات التعديل المنصوص عليها في صلب الدستور ذاته.

يتمثل الاضطراب البداهي بما عرضناه من مدعيات العسكر في الشرق الليبي أنهم لايريدون إخضاع مؤسستهم الملفّقة والمنفلتة من القانون، لسلطة مدنية. بينما الانفصاليون الذين يسمون أنفسهم فدراليين، يدّعون حقوقاً تاريخية متوهمّة لأقليم برقة. ويشترط العاصميون في مفارقة ليبية دالة تاريخية أملتها ظروف لم تعد موجودة باعتبار بنغازي العاصمة الثانية المساوية للعاصمة أي عاصمة يمكن تسميتها. وكلٌ من المعوقين له دوافعه ومخاوفه وأطماعه. ولكي يعطوا المسوّغات لمدعياتهم، يطعنون في هيئة كتابة مسوّدة الدستور أنها خضعت للضغوطات الإسلاموية في مسألة اعتبار ليس فقط الإسلام دين الدولة كما ورد في دستور 1951 فتضاف الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع.

ولكن اللافت لمن يمحصون المدعيات المسيسة بمحك علم المنطق ومستنداته الصورية والرياضية،هي الردود التي تتوخى درايات القانون. والمتمثلة في واقعتنا بعضو الهيئة التأسيسية ورده الذي ترجع مشروعيته إلى خصوصية ليبية لحظتها منذ عودتي إلى ليبيا يناير 2012 التي تواقتت مع بدء الحديث عن الدستور، بل شاركت بالحضور وبالتعليق على بعض العروض المنقوصة من الضبط والتدقيق التي ألقيت في عديد الندوات التي نُظمت في طرابلس من المكونات الحزبية ومنظمات المجتمع المدني. فتنقسم الرؤية في هذا الشأن بين فريقين ذوي رؤيتين: ـ نكتب دستوراً، أو ـ نعتمد مع إحداث تغييرات فيه- دستور استقلال عام 1951. في كل النقاشات كان صوت القانونيين هو المسموع، وفيما علمت أن لا واحدا منهم اختصاصه القانون الدستوري، أو سبق له التعاطي مع القضايا الدستورية. وهو أمرٌ مبرر في دولة لم تعمل بدستور اثنين وأربعين عاماً، بل نظامها السياسي يضاد الدستورية ببديل فوضوي للحكم باسم دولة الجماهير.

لنتجاوز هذه البداهة وارتجالياتها، وتفيذنا في ذلك الرياضيات دون السياسة والقانون وحتى الفلسفة لمقاربة المفهوم في مجاله المنطقي وحتى لايأخذ المقال طبيعة الاختصاص نمر بعجالة على الضرورات والأوليات التي يؤسس عليها استنباط البديهية المستند على المنطق الصوري فيما سميّ بالنسق الإقليدي، والتي يمكننا تلخيصها في خمسة أوّليات: يعرّف الألفاظ مُسبقاً قبل استعمالها ـ يُبرهن على صحة القضايا أولاً قبل قبولها ـ ويقيم الحجج على ماسبق له منطقياً إتباثه ـ ويربط النظرية ضرورةً بالقضايا التي تنتج عنها.
أساس الإقليدية المسلمة الأوّلية المسبقة. لنتجاوزها بناء على فرضية الهندسات الأخرى الممكنة. إذ طرح بعض الرياضيين سؤالا مفاده:هل نحن على يقين من أن هندستنا هي الهندسة الصحيحة؟ ولئن كانت التجربة تفيدنا ـ لامحالة ـ بأن مجموع زوايا المثلت يساوي قائمتين، فلأننا لانعمل إلاّ على مثلثات صغيرة جدا. وقد لحظ الرياضي والمنطقي لوباتشفسكي أن الفرق بينها متناسب مع مساحة المثلّث.فهل يصبح ـ أي الفرق ـ محسوسا إذا ما عملنا على مثلّثات أكبر، أو إذا ما أصبحت قياساتنا أدّق؟ وعندئذ لن تكون الهندسة الإقليدية إلاّ هندسة انتقالية مؤقتة.

ديكارت، الرياضي الذي خيل إليه ـ حسب "ماغازين ليتيرير" ـ أنه الفيلسوف، لم ينتبه إلى النقيصة التي اعترت شكه، مع فكرة كفاية الأنا لنفسه بنفسه، بصفته جوهرا قائما بذاته في مسألة تطبيقه لقاعدة البداهة في الأخلاق، مثلما لم يعر بالا لتناقض الحاجة إلى الأخلاق المؤقتة Provisoire، ودواعيها، التي تنبثق عن عدم قابلية الأخلاق للتأجيل في الحياة العملية، إبان ممارسة الشك التأملي، الذي يستلزم "تأجيل الحكم" والقيام بـ "مسح الطاولة" حيث قارن هذه الحاجة بحاجة الإنسان الذي يريد "تجديد بناء المسكن الذي يقيم فيه... أن يكون له مسكن آخر يستطيع أن يأوي إليه في راحة خلال الزمن الذي يعمل فيه على تجديد المسكن الأول...".

هذا المنعطف الإشكالي دفع العلم الرياضي إلى استحداث الهندسات اللاإقليدية التي أمكن وضعها بإلغاء الفرض الذي كانت تفرضه هندسة إقليدس ووضع افتراضات أخرى مكانه. فتبيّن لعلماء الهندسة بفضل ماحققّته افتراضاتهم من نجاح، أن بإمكانهم وضع هندسات أخرى جديدة يعاد فيها النظر في جميع البديهيات التي تميّزت دائما عن الموضوعية التي لم تكن بدورها تتمتّع بالبديهية. الأمر الذي يجعلها مجرّد منظومة من الفرضيات تختلط فيها ـ أي الافتراضات ـ البديهيات بالموضوعات، وهي الفرضيات التي لم نعد نشترط فيها أن تكون بديهية، بل نكتفي منها بألا تتنافر مع بعضها البعض، أي ألاّ تؤدي النتائج المتمخّضة عنها إلى عبارات متناقضة، وهو مايمكن أن ندعوه بمبدأ التوافق البينذاتي.

البينية betweeness مفهوم تتشارك فيه علوم الرياضيات وبيداغوجية التعليم. وهو مفهوم يُستعان به حتى في المنازعات التي تتشبه بالدستورية والمسيجة بأخلاقيات المواقف Situation ethics . وهو ماينبغي أن يتوخاه طرفا النزاع الذي يبتعد بليبيا لثماني سنوات عن تطلعات الناس إلى الديمقراطية والدولة المدنية الآمنة، والعادلة، ومعهم تتطلع ليبيا: بلادا يستنزفها العنف بالقتل، وتفقرّها الفوضى من مواردها وتعطلها أطماع السلطة والمال إلى أن تأخد مكانها الذي أخسرته إياها اثنان وأربعون عاما من فوضويات الدكتاتورية العمياء.