Atwasat

الجامعة الدولية تتبنى التفكير الناقد

سالم العوكلي الأحد 21 أكتوبر 2018, 01:17 مساء
سالم العوكلي

ليست كثيرة الأخبار المفرحة التي تصادفنا ونحن نتابع أخبار هذا الوطن، الذي يتلوى جسده تحت عصي من شاء القدر التاريخي أن يكونوا قادته في أخطر مراحل التحول التي يمر بها، لكن الكثير من أخبار الظل البعيدة عن الضوء مازالت تشد أزر الأمل الذي يختفي خلف دخان الحرائق، وخلف غبار المتناطحين على السلطة.

من هذه الأخبار، البعيدة عن البروباغاندا، خبر تبني الجامعة الدولية ببنغازي لمادة التفكير الناقد كمادة ملزمة لجميع طلابها، ووفق تصور مدروس بعناية يتضمن ديباجة نظرية لأهمية التفكير الناقد في تكوين العقل الديمقراطي المتسامح القادر على التحليل والحوار، والحجج التي تؤكد أهميته، وأهداف تدريس هذه المادة. وتنطلق هذه الرغبة الملحة في إدراجه ضمن المنهج، وفق التصور الذي وضعه مختصون من واقع أنه "في بعض جامعات العالم، التفكير الناقد مادة ملزمة لجميع الطلاب، أيا كانت تخصصاتهم. أما عدد من يدرسون التفكير الناقد في بلادنا فلم يكن حتى ثلاثة أعوام خلت يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة (إلى أن قرر في قسم الإدارة العامة بفضل حماس د. عمر العفاس ود. عبير أمنية، وقررت الجامعة الدولية أن تجعل منه مادة إلزامية لجميع طلبة الجامعة). لا عجب إذن في أن القدرات النقدية الليبية، بما يرتبط بها من قيم تنويرية، تعاني من الوهن الذي تعاني منه، ولا أن يلقى الفرقاء العنت الذي يلقون في الجلوس على طاولة الحوار.".

لعله من الوجيه أن نعترف بأن أهم ما يمكن أن تفضي إليه العملية التعليمية والتربوية عقل نقدي لا يركن إلى المسلمات ولا يكتفي بكونه وعاءا مصمتا للمعرفة، وربما هذا هو أحد الفوارق المهمة الآن بين التعليم في المجتمعات المتقدمة الذي أنتج الحضارة التي نعيش في ظلها، وفي المجتمعات المستهلكة التي مازالت تعتمد التعليم في اتجاه واحد تلقيني وتعبوي ملأ الفضاء المهني بشبه أميين يحملون شهادات عليا. ومن هذا المنطلق كانت صياغة توصيف مادة التفكير الناقد كما سوف تدرس في الجامعة الدولية: "صممت هذه المادة لتأمين مهارات يحتاجها الطلاب تمكنهم من تحليل وتقويم الحجج، والمعلومات والأدلة المستقاة من مختلف المصادر. والغاية الرئيسة هي اكتساب القدرة على ممارسة النقد في عملية تشكيل الاعتقادات واتخاذ القرارات. وتشمل المهارات المقصودة مهارة تحليل النصوص، والتمييز بين مقدمات الحجج ونتائجها، والتحقق من المزاعم، والكشف عن الافتراضات المضمرة ومكامن الاختلالات المنطقية، وتقويم الإثباتات والبراهين. وتوظف المادة في صقل هذه المهارات الكثير من الأمثلة المستقاة من الحياة اليومية، بمختلف مناحيها.".
بينما حددت الغاية من تدريس هذه المادة في ثلاثة أهداف، معرفية، ومهارية، وقيمية، تتمثل في:

التعرف على مهارات التفكير الناقد الأساسية ــ اكتساب مهارات التفكير الناقد الأساسية عبر الخوض في قضايا خلافية ــ وتكريس قيم التعددية، والموضوعية، والنقد الذاتي، والاستقلالية الفكرية.

لعل الأسئلة التي تدور الآن في أذهان المصدومين مما يحدث في ليبيا من لغط كلامي، ومواقف متضاربة، وعجز عن الحوار المثمر، وإقصاء متبادل بين من يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة الواحدة، يعود في الأساس إلى قصور تربوي يتعلق بتنمية عقل علمي ناقد، قابل لمبدأ الاختلاف ومن ثم التنازلات المعرفية التي من المفترض أن تتبعها تنازلات إجرائية. من الواضح لمس فقر مدقع لدى العقل السياسي فيما يخص الأهداف القيمية لهذه المادة، التي من المفترض أن تقرر بمستويات مختلفة في جميع مراحل التعليم.

البعض يحيل تخلف النخب التي عجزت عن الوصول لحل أزمة مجتمع لا توجد مبررات منطقية لأزمته، إلى تداعيات ثقافة النظام السابق المهيمنة على العقول، وهذه إحالة وجيهة، خصوصا إذا ما اعتبرنا أن أهم كوارث سياسات تعليم النظام السابق كان إلغاء قسم الفلسفة والتفكير الناقد من الجامعات وتسميته "قسم التفسير" وتهميش ثم إلغاء تدريس مادة الفلسفة في مراحل التعليم الأساسي.

مهد التصور لإدراج مادة التفكير الناقد ضمن مناهج الجامعة الدولية لهذه الفكرة بجزء من مقالة حول التفكير الناقد وردت ضمن كتاب "يمشي على مهل ويسبقنا" قيد الطبع . والتي أوردها لأهميتها ولعدم قدرتي على اختزال نصها الكثيف الذي يذهب مباشرة نحو الهدف:
"التفكير الناقد نشاط مقلق بطبيعته، فهو محاولة لامتحان افتراضات نقرها أو نصادر عليها أو نسلك بمقتضاها، والناس، كما يقول إزيا برلن، لا يرغبون في أن تمتحن افتراضاتهم وتبتلى تصرفاتهم أكثر مما يجب، بل إن كثيرا من الناس يجدون مشقة بالغة في عملية التفكير، على الرغم من أن الحياة غير المتفكرة ليست بشرية بأي حال.

من منحى آخر، ثمة مبدأ يضمره كل تفكير ناقد، مؤداه أن الحقيقة ليست في حوزة أحد، وأن قيمة الفكرة إنما تكمن في وجاهة ما تؤسس عليه من أسباب، وأن الحوار مع الآخرين أفضل سبيل لفهمهم والإفادة من تجاربهم. ويبدو أن عيش حياة تليق بالإنسان، أي بكائن العقلُ مكمن تفرده، إنما يرتهن لاكتساب مهارات من القبيل التي يعنى التفكير الناقد بالتفصيل في استحقاقات اكتسابها. وثمة من يذهب إلى حد إقرار أن العاجز عن التفكير بطريقة نقدية عاجز عن اتخاذ قرارات عقلانية؛ والعاجز عن اتخاذ مثل هذه القرارات يتوجب ألا يترك طليق السراح، فكونه يتصرف بطريقة غير مسؤولية إنما يعني أنه يشكل خطرا على نفسه وعلى الآخرين. بتعبير آخر، العاجز عن التفكير الناقد أحرى أن يزج به في السجن".

لعل ثمة غلوا فيما يخص زج العاجز عن التفكير الناقد في السجن، وبالتأكيد لا توجد قوانين تقر مثل هذه العقوبة، ولا آليات لإثبات التهمة، لكنها تأتي تعبيرا مجازيا يشير من مدخل نظري أخلاقي لأهمية هذا النمط من التفكير، ولعل رؤية نتائج العجز حياله في مجتمعنا يؤيد هذا العقاب المجازي وفقا لما يترتب عن مرتكبه من أذى في حق مجتمع برمته.

في مجتمعنا الذي من خصائصه الاستعداد لانتقال العدوى الإيجابية والسلبية بسرعة، اتمنى أن تنتقل عدوى هذه اللفتة المهمة من الجامعة الدولية إلى بقية جامعاتنا بل إلى كل مراحل التعليم، حيث مرونة تدريس التفكير الناقد تجعله ممتعا وفق المنهج الذي يعد لكل مرحلة عمرية.