Atwasat

المثقف الليبي والفريضة الغائبة

أبو القاسم قزيط الأربعاء 17 أكتوبر 2018, 11:03 صباحا
أبو القاسم قزيط

هل من دور للمثقف الليبي في حالة المخاض العسير، التي تمر بها البلاد.

حالة الولادة العسيرة للدولة الليبية من جديد. نحن تربينا على أننا شعب واحد من المحيط إلى الخليج، وأن البلاد. العربية كالجسد الواحد إذا مرض منه عضو. تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمي. لكن في بداية المطاف، ونهايته أيضا، هناك خصوصية ليبية، ولا يعرف هده البلاد حق المعرفة إلا من عاش فيها وعاش المضحك والمبكي فيها. من يعرف التفاصيل الدقيقة في عاداته و ما مرت به من فصول شديدة الغرابة أحيانا، لكنها عميقة التأثير في البنية الاجتماعية. والشخصية الليبية.

طالعت هذا الأسبوع، بتوصية من الصديق العزيز الناشر علي عوين، رواية طريق جهنم عن، الثورة الليبية وعن سجون القذافي وعن مصير القذافي في أيامه الأخيرة بقلم الكاتب الأردني أيمن العتوم. قبل ذلك قرأت رواية الكاتب الجزائري محمد بومسهولي (ياسمينه الخصرا) رواية عن اليوم الأخير في حياة القذافي بعنوان ليلة سقوط الرئيس.

وفي الدراسات حول الشخصية الليبية سبق لي الاطلاع المعمق على كتاب السيسيولوجي التونسي المنصف وناس في كتابه الشهير الشخصية الليبية وكذلك كتابه ليبيا التي رأيت ؛ ليبيا التي أرى(محنة بلد)، وأيصا كتاب الباحث التونسي المولدي الأحمر عن الجذور الاجتماعية للدولة الليبية الحديثة.

كسياسي استعصى عليه فهم المشهد السياسي الليبي، هرعت بشغف بالغ لكل عمل إبداعي، أو دراسة جادة عن الحالة الليبية عسي أن تنير جانبا مهما من الحالة الليبية المركبة وتساعد على فتح المغاليق وتيسر الفهم .. لا تتملنكي الغيرة إطلاقا من هؤلاء الكتاب كما انتابت بعضا من الكتاب الليبين.. فلا أحد ينكر أن الأسماء الإبداعية مثل بومسهولي والعتوم لها. إسم يحظى باحترام في الوسط الأدبي العربي. بل الفرانكوفوني والعالمي بالنسبة لبومسهولي. أما وناس والأحمر فمن المعروف أن المدرسة التونسية أو الفرنكفونية، بتعبير أدق، تتميز بالصرامة المنهجية وغنى التحليل.

لكن تتملكني الغيرة على بلدي. فأين هم الأساتذة الكبار في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الفاتح سابقا بطرابلس وهي التي خرجت مئات الكوادر العليا وربما الآلاف. أين أساتذة جامعة قاريونس العظام.. أين هم تلاميذ عمر التومي الشيباني والهادي بولقمة وعلي فهمي خشيم ورجب بودبوس ومصطفى التير وعبدالكريم الوافي... لماذا صمت الروائي العملاق أحمد إبراهيم الفقية.. وزملاؤه.. لماذا لاتوجد رواية توثق التحولات الكبيرة لليبيا في العهد الملكي وفي زمن القذافي وحتى زمن فبراير، لماذا لا توجد إلا الكتابات الآيدولوجية القادحة المادحة... لماذا الصمت والسكوت وتغييب التاريخ الاجتماعي للوطن، لا يمكن للكتاب والأدباء الاحتماء بآلية الإسقاط.. دريئة القذافي لم تعد تدرأ عنهم مسؤوليتهم وتبرئهم حتى أمام محاكم ضمائرهم لا نريد محاكمة أي من العهود وإصدار أحكام أخلاقية على أي زمن. نريد شهادة على العصر. نريد الرواية التاريخية... نريد رصد التفاصيل الصغيرة لحياة الليبين.

نريد الدراسة الرصينة الجادة للحالة الليبية. في العراق، بعد صدام حسين، كان هناك، نتيحة للأحداث الجسام، والمناخ الجديد، عدد هائل من الأعمال الإبداعية التي توثق بالرواية حالة العراق في النصف قرن الأخير. ومعظم المبدعين هم من جيل الأبناء بالنسبة لعبد الخالق الركابي.. منهم على سبيل المثال سنان انطوان ومرتضى كزار.

ليبيا بعد القذافي في مرحلة الحرية المنفلتة من عقالها.. لكن المبدعين الذين يتحججون بعدم توافر مناخ الحرية... لم نرَ نتاجا معتبرا حتى بعد غياب حالة القمع والمصادرة. في حالات التحولات الكبيرة يلعب المثقف دور ضمير الأمة، هكذا كان فولتير وروسو وغيرهم.

يقال أن المثقف هو النجم في أوربا. (سارتر، فولتير) ولاعب كرة القدم هو النجم في أمريكا اللاتينية (ماردونا، بيليه) ورجل الأعمال هو الأكثر نجومية في أمريكا الشمالية..( فورد، روكفلر)

ونحن دائما خارج التقاسيم والتصنيفات.. في خمسينات القرن الماضي رسم أحد التشكيليين رسمة توضح رهطا من الناس والمثقفين تقف خلف العملاق سارتر في مفترق طرق تنتظرأن يعبر سارتر حتى تعبر وراءه، وعندما اعتقل في حراك الطلاب عام 1968 ارتعدت فرائص الرئيس ديغول وأسرع في إطلاق سراحه قائلا: سارتر في السجن. يعني الأمة الفرنسية في السجن.. لا شك أننا نفتقد بحسرة فرسان الكلمة: خليفة التليسى وعلي فهمي خشيم والصادق النيهوم و رجب بودبوس، الذين ساهموا بالمقال والرواية والدراسة والتأليف والترجمة... حتى يسدوا الفراغ في الساحة.. ويؤكدوا الهوية الليبية في كتابتهم حتى وإن خاتل بعضهم السلطة وانحاز لها بعضهم الآخر.

أين هو المثقف العضوي كما شرحه فيلسوف اليسار الايطالي انطونيوا غرامشي، المثقف الذي يلتحم عضويا بقضايا شعبه وأين هو المثقف الملتزم كما طرحة جان بول سارتر. المثقف الملتزم بقضايا الأمة. وأين هو المثقف النقدي كما طرحه القريب إلى قلوبنا إدورد سعيد.. الذي يرى أن الموقف الأساسي للمثقف هو موقف نقدي . ألم يجد المثقف الليبي في البركان الليبي وإعادة التخلق والتشكل للهوية والوطن مايربطه عضويا بهذا المرجل الدي يغلي. ألم يجد في مثل هذا الصراع ما يجعله يقدم فكرا ملتزما كما قدم بعضه سارتر في كتابه عارنا في الجزائر. لم يجد المثقف الليبي في كل التهافت والإسفاف ما يحرضة على ممارسة دور المثقف النقدي كما هو عند إدوارد سعيد. من غير المعقول أن تثير الحالة الليبية مكامن الإبداع لدى كتاب ربما لم يزر بعضهم ليبيا قط. في حين لاتحرك شيئا في أبنائها. هل هي حالة عجز معرفي أو تبلد انفعالي وخفوت الصوت الإبداعي. في كل الحالات يجب أن تشعر طبقة الانتلجنسيا الليبية بالحرج أو حتى بالعار لهذا الوضع.

الكتابة عن ليبيا وطننا، قصة ورواية ودراسة، هي فريضة على كل من يتعاطي مع الشأن العلمي والإبداعي ولا يكفي التشنيع بهذا الكاتب أو ذاك من الكتاب العرب حين يخطيء في إسم قرية أو تاريخ حدث في تاريخ ليبيا العظيم.
أم أن مساحات وطني تحولت إلى منطقة صغط منخفض سياسيا وفكريا.. أمام عجز أبنائها عن أخد زمام المبادرة وكتابة تاريخ هذا الوطن العزيز. الفريضة الغائبة ليست فريضة محمد عبد السلام فرج. بل هي فريضة جان بول سارتر وانطونيو غرامشي و إدوارد سعيد.

* عضو مجلس الدولة