Atwasat

ليبيا تبحث عن مؤلفها

نورالدين خليفة النمر الأحد 14 أكتوبر 2018, 12:18 مساء
نورالدين خليفة النمر

توجد فقط حكومة التوافق في العاصمة طرابلس محاوراً ليبياً للأطراف الدولية المجتمعة في لقاء باليرمو المُزمع عقده 12 و13 نوفمبر المقبل، وفي يدها عدا شرعيتها وحيدةً أمام المجتمع الدولي لتعادل نسبة متساكني طرابلس والعاملين فيها إزاء ليبيا كُلها، ولحيازتها لكفاءتها إدارة رزق الليبين ببسط يدها على المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي. واليوم في يدها إنجازان مهمان: نجاحها في تكوين فريق مطالبة دبلوماسي تقوده وزارة الخارجية المفوّضة للحديث باسم حكومة توافق مؤتمر الصخيرات، أمام المحفل الأممي والمحافل الدولية الأخرى ـ وحسمها لتغوّل الميليشيات على العاصمة وتعرية القوى المموّلة لمشروعيتها ومادياتها، والتي بعد إضعافها بتكلفة باهظة في عناصرها تجاوزت 500 عنصر ميليشياوي، عدا العتاد الحربي والذخائر، صارت مهيئة للمصائر التي حدّدتها لها الترتيبات الأمنية وضوابط فرزها من البعثة الأممية في ليبيا: ـ عناصر قابلة للتخلي عن تاريخها الميليشياوي لكي تتحول إلى العمل في الشرطة من خلال تأهيلها. وـ عناصر تريد العودة إلى الحياة المدنية، فتخصص لها موازنة تُعينها في توجهها المدني. وعناصر تفضل مغادرة البلاد، وفي حال ثبت عدم قيامهم بجرائم كبرى، سيؤذن لهم بذلك.

ربما مابعد باليرمو ستخف ملامح الفوضى الليبية، التي كتبنا فيها ليس بمحض صدفة أو تعمُلّ لتطويع الأفكار، ولكن بإلحاح ضغط الأحداث الدموية لفجر ليبيا المظلم مُذ تفاقم من خريف 2014 إلى حرب الميليشيات ضد الميليشيات 2018. ورأينا كيف أنتجت مؤسسية تتناوشها حتى اليوم أربعة أجسام مصطنعة صارت مع الزمن نافلة، تقمصتها أربع شخصيات لايزال كل منها يبحث عن مؤلف، من خارج المسرح يرسم له دوره. بينما في خلف العرض ترّدد الجوقة بضمير الثورة الليبية: "شور غريسياني.. يامطلين ياشيشلياني" الشتاوّة الشعبية المشنِّعة بالخونة. ولكن المخوّنون اليوم ليسوا مُخوني الأمس مجندين بؤساء في جيش المستعمرين الطليان، بل خونة جدد يعوز حججهم في التشبت بمشروعيتهم النافلة الإقناع، وأوهامهم في اصطناع مؤسسات ومجالس وبرلمان وجيش يكذّبها الواقع، وأفعالهم العبثية في إعاقة دولة ديمقراطية مدنية يخترمها الارتجال والتهافت.هذه المواقف تعبرّ عنها الكتابة المرتجلة للمسرح داخل المسرح للكاتب الصقلي لويجي بيرانديللو: "ست شخصيات تبحث عن مؤلف“. حيث ترتجل القضية الليبية نفسها، وبالتكرار ذاته وتبحث عن مؤلفها في تمثيلية وهمية يخترقها ممثلون يزعمون أنهم شخصيات تريد أن تمثل بدون مؤلف يتبنى أدوارهم، ويوجه أفعالَهم. فيكررون أزمتهم كما في مؤتمرات سابفة.

افتتاحية صحيفة الوسط الورقية لم تتناسَ وأشارت إلى مؤتمر باريس الذي أولد باليرمو ليموت بعملية الولادة القيصرية: مباشرة بعد انتهاء وقائعه. وحتى هذه اللحظة وزارة الخارجية الإيطالية لم تحدّد الممثلين الليبين في بالريمو. فالأمر مازال يحفه الغموض، إذا وضع في الحسبان تردد رئيس جهاز المخابرات الإيطالي المقال ألبرتو مانينتي في الإلقاء بثقله كاملاً والاستفادة من اتصالاته داخل ليبيا نفسها لضمان الحد الأدنى من المشاركة.

لكن لو تفحصنا المشروعيات المؤهلة للتكلم باسم القضية الليبية، نجدها بهتت في المؤسسات المصطنعة الملمح لها آنفاً، والتي لم تظهر مؤسسات بديلة عنها. ونجد أن المعني الليبي بالتحاور على طاولة مؤتمر باليرمو هو حكومة التوافق المعترف بها دولياً، ممثلة في الرئيس ومستشاره للشئون السياسية، ووزير خارجيته وطاقمه الدبلوماسي. ترفدهم في ليبيا تشكيلة وزارية جديدة الأحد 9/ 10/ 2018 شملت حقائب وزارات الداخلية والمالية والاقتصاد والهيئة العامة للشباب والرياضة. حظيت على الفور بمباركة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، معربة عن كامل استعدادها لدعمها لتنفيذ الترتيبات الأمنية الجديدة في العاصمة طرابلس، والسير قدما في الإصلاحات الاقتصادية، والسعي لتوحيد المؤسسات الوطنية الليبية. حتى موعد الانتخاب بشقيها البرلماني والرئاسي اللذين يؤمل أن ترتسم خطتهما في باليرمو. وبذا ستكون حكومة تسيير الأعمال مختصرة كل الأجسام المصطنعة التي أثقلت كاهل ليبيا منذ 2012 حتى2018 بالفشل حيث لم يعد هناك مكان للبرلمان الفاشل والعاطل عن العمل في طبرق، ولمجلس الدولة المسير بالأخوان المسلمين وشعاريات الوفاء لدم الشهداء الديماغوجية فهم حسب الترتيب الأميركي الجديد للشرق الأوسط يطلعون من اللعبة الليبية كاشقائهم في البلدان الأخرى الذين فبكرتهم توهمات كلينتون ـ أوباما. وحتى قائد مسمى الجيش الليبي، فقد مصداقيته بفشل مؤتمر باريس الذي اُصطنع على مقاسه، وظهور تكهنات مخابراتية بريطانية بالسماح للجيش الروسي بإرساء قاعدة له في شرق ليبيا.

ما بعد مؤتمر باريس كان المشهد عبثياً كسابقه تناوشته اعتبارات وتوجهات الأجسام الأربعة: شخوصٌ شبيهة بأربع من: "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" في مسرحية لويجي بيرانديللو الشهيرة. الذين تجلت مأساتهم في تشرذمهم واختلافهم، فلا أحد منهم ينشد رؤية للتحقق الفعلي أوالخلاص الجماعي، إنما هو يقدم نفسه بديلاً لكل الآخرين، وأهلاً للمشروعية عن كل الفرقاء، فلم تقنع كلماتهم أحداً واستقبلهم الجميع باستخفاف بمن فيهم المخرج ومدير المسرح وحتي النظارة والمتفرجون. وتظل الشخصيات في اشتباك واحتراب وتنافس تضيع معه قضيتهم ويتشتت الناس في استقبال حجتهم وتصديق مقولاتهم ورؤيتهم.

الليبيون الذين يعانون شظف الحياة، بل ملل الموت في الحياة التي أصبح مسمّاها قتل الميليشيات تعبرّ عن ضميرهم رواية "واحد لا أحد ومئة ألف" التي تكون رسالة بيرانديللو الخاتمة وكتابته "الأكثر مرارة من أي كتابة آخرى، والأكثر سخرية من مسألة تفكك الحياة نفسها" حيث ينكشف لـ : الشخصية الرئيسية ـ التي نماهيها بمسمى الشعب الليبي ـ أن كل واحد من الذين عرفوه، قد صاغ له صورة هي في غاية الأمر قناع، تنتمي إلى خياله الخاص، وليس إلى حقيقته. أو على الأقل ليس إلى الصورة التي كونها الشخص عن نفسه معتقداً دائماً أنها صورة لذاته. فالصورة المُتلقاة من الآخر سرعان ما تتضاعف إلى ما لا نهاية، بقدر ما وجد آخرون نظروا إليه بحيث تصبح صورته مئة ألف صورة، ما يعني أيضاً أنه صار لا أحد.

خارج الارتباك الليبي وفي السياق الإيطالي ذاته شككت صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية في آلية التحضير للمؤتمر وذكرت أن الصراع المحتدم في قمة هرم السلطة في روما بشأن توزيع المناصب داخل الأجهزة الأمنية الإيطالية يحول ودون تأمين الاتصالات الضرورية لإنجاح اللقاء، بدعوة الأطراف الدولية وعلى رأسها روسيا. إذ تأمل روما مشاركة رفيعة المستوى من موسكو في مؤتمر باليرمو، والمقصود بذلك الرئيس بوتين الذي تربطه وشائج بالشعبوية الحاكمة في إيطاليا، بدوره علّق وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أن الدعوة الإيطالية وصلت في وقت ضيّق، وغير مرفقة ببيان بملفات المؤتمر. وأنه بمجرد أن تعرف روسيا الآليات اللازمة لإعداد المؤتمر، ستقرر موسكو مستوى مشاركتها.

حسب بيان صادر في 09 أكتوبر 2018 عن بلدية بنغازي عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك رحب السفير البريطاني في كلمته في بنغازي بنجاح المدينة في التخلص من الإرهاب، لكنه شدّد على أن عليها العمل على التخلص من العوامل التي تسببت في ظهور التطرف والإرهاب.هذا التصريح تواقت معه ما أوردته جريدة “ذا صن”. باغتت الاستخبارات البريطانية النافذة تاريخياً في شرق ليبيا الترتيبات الإيطالية بخصوص دعوتها لروسيا وحذرّت رئيسة الحكومة في لندن بأن موسكو حركت قوات وصواريخ إلى ليبيا في محاولة لفرض وجودها، وأن عشرات من ضباط وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية وعناصر من قوات “سبيتسناز”، وهي وحدة القوات الخاصة التابعة للجيش الروسي، موجودون بالفعل في الشرق الليبي الذي تهيمن عليه قوات الكرامة بمسمى الجيش الليبي وأن الروس يقومون بمهام تدريب ومراقبة، مرجحة أن صواريخ (كابلير) المضادة للسفن ونظام صواريخ (إس 300) الدفاعي، موجودة بالفعل على الأرض. وحددت بالتفصيل موقع قاعدتين عسكريتين روسيتين تعملان تحت غطاء شركة روسية عسكرية خاصة تسمى (مجموعة فاغنر)، لها مقرات في بنغازي وطبرق.

هذه الدّقة المتناهية في المعلومات لاشك أنها ستحدث منعطفاً لافتاً في سيناريو مسرحية داخل مسرحية بيراندللو الليبية حيث ستبعد المؤلف الروسي وتابعه الليبي شخصية ضائعة على خشبة المسرح تبحث عن مؤلف.